لمصلحة من التشكيك بجدوى الاتفاقات الاقتصادية مع العراق؟!الاقتراب من بغداد: نحو ابتعاد حتمي عن تل ابيب

العرب اليوم
شؤون اردنية
ناهض حتّر
تسربت الى صحافتنا امس محاولات مضحكة للتشكيك باهمية وجدوى الاتفاقات الاردنية العراقية الاخيرة. وهي مضحكة لانها شبيهة باحتجاجات ولد مدلل على ابيه الكريم، لانه يكتفي بتمويل دراسته الجامعية ولا يهديه سيارة مرسيدس، الا انها ايضا محاولات لئيمة سيما وان الاحتفالات بمعاهدة التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الاميركية لم تهدأ طبولها مع ان احتمالات التصدير الممكنة بموجب تلك المعاهدة لا تزيد على 20 بالمئة من سقف التصدير المتاح الى العراق للعام المقبل والبالغ حوالي مليار دولار.
هل نحن قادرون على انتاج السلع والخدمات التي تغطي المساحات التي تفتحها الاتفاقات مع واشنطن او بغداد او غيرها؟ هذا سؤال ضروري ولكن طرحه بتحيز ولالقاء الظلال على جدوى العلاقات الاقتصادية مع العراق، يخرجه من خانة الاقتصاد الى خانة اللؤم السياسي.
لقد كنا وما نزال نؤكد ان سر الازمة الاقتصادية الاردنية انما يكمن اساسا في البيئة الاقتصادية الاجتماعية الاردنية، وان الحل هو اردني اولا ولكن التشكيك -في ظروفنا الراهنة -بالدعم العراقي نافل وضار ومستهجن.
ولعل من العجيب ان بعض السياسيين الاردنيين لا يرف له جفن وهو يبرر الارتباط بالسياسات الاميركية بحجة ما نتلقاه من فتات المساعدات الاميركية المشروطة، لكنه عندما يتعلق الامر بالمنح العراقية الاكبر، واللا مشروطة يقفز عنها، وكأنها مورد محلي ثابت من موارد الخزينة الاردنية! بل ان هناك من يعتبر انه من تذاكي السياسة، توجيه جهود سنوية مضنية (وتنطلق كذلك من الحرص على عدم اغضاب اسرائيل والبحث الدؤوب عن دور في “عملية السلام” الميتة) من اجل اقناع الكونغرس الاميركي بعدم عرقلة المساعدات الاميركية للاردن… ثم يضن على العراقيين بساعات من المفاوضات الودية للحصول على 90% مما يريد! وهو كثير!
لقد عاد رئيس الوزراء المهندس علي ابو الراغب من رحلته السياسية الى العاصمة العراقية وفي جعبته جملة من الاتفاقات الاقتصادية الثمينة:
– منحة نفطية بقيمة 300 مليون دولار
– سعر تفضيلي لبرميل النفط بحدود 20 دولارا (وهو ما يعنى في المحصلة، ان الاردن المتوقع ان يستهلك حوالي 40 مليون برميل من النفط ومشتقاته في العام 2001 سوف يحصل على برميل النفط بسعر فعلي في حدود الـ 12 دولارا بينما السعر العالمي في حدود الـ 30 دولارا -بالاضافة الى انه يسدد فاتورته النفطية بالمقايضة).
– خصم40 بالمئة على اي زيادة تطرأ على اسعار النفط مستقبلا
– سقف مستوردات من السلع والخدمات الاردنية المنشأ يصل الى مليار دولار للسنة القادمة منها 450 مليون دولار بموجب البروتوكول التجاري والباقي بموجب “مذكرة التفاهم” والاتفاقات المباشرة مع القطاع الخاص الاردني.
-الشروع في تنفيذ برنامج مد انبوب نفطي بين البلدين
– العودة الى اعتماد ميناء العقبة للمستوردات العراقية
وفي الاجمالي فان هذه الاتفاقات سوف ترفع حجم التبادل التجاري الاردني-العراقي، خلال السنة المقبلة، الى حوالي ملياري دولار وستكون هذه خطوة واسعة نحو العودة الى معدلات التبادل العالمية التي كانت سائدة بين عمان وبغداد قبل 1990.
الا ان ما يدفع بالملاحظات الاقتصادية اللئيمة على السطح ليس “الاقتصاد” وانما السياسة. وما يجعل البعض يكظم غيظه ويطرح “التساؤلات” هو ان رئيس الوزراء الاردني-وبغض النظر عن الدوافع والملابسات-اعطى لزيارته الى بغداد بعدا سياسيا واضحا ، فاعلن انه جاء يزور العاصمة العراقية من اجل التكامل السياسي اولا (في رد ضمني على ما اشيع من ان الاردن حصل على موافقة الولايات المتحدة الاميركية لتطوير علاقاته مع العراق في الجانب الاقتصادي) واكد ان «العراق هو عمقنا الاستراتيجي وسنسعى لان تكون علاقاتنا الثنائية نموذجا يحتذى به» وعزز نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان، تأكيدات ابو الراغب على المضمون السياسي للخطوة الاردنية بقوله ” ان البعض يعتبر هذه العلاقات وهذه الزيارة خارج حساباته ولا نستبعد ان يحاولوا الاساءة الينا من هنا او هناك ولذلك علينا ان نمارس اليقظة والانتباه وان نعمل كفريق واحد لما فيه خير بلدينا، وبما يمنع مثل هذه الاساءات» في اشارة واضحة الى التحسب من ضغوط اميركية وخليجية قد يتعرض لها الاردن جراء اقدامه على كسر الحصار المفروض على العراق من جانب واحد.
وكانت عمان قد اتخذت ثلاث مبادرات ودية ازاء بغداد خلال تشرين الاول الماضي فارسلت اول طائرة عربية الى مطار صدام الدولي وطردت ممثلي شركة لويدز البريطانية الذين كانوا يفتشون المستوردات العراقية في ميناء العقبة، وضمنت كلمة الوفد الأردني الى القمة العربية مطالبة صريحة بضرورة رفع الحصار عن العراق. وجاء كل ذلك عشية الاتفاق على عقد اجتماعات اللجنة الاردنية العراقية المشتركة لاول مرة منذ عشر سنوات في العاصمة العراقية.
ومنذ البداية اراد ابو الراغب ان يكون الوفد الاردني الى هذه الاجتماعات، سياسيا فضم الى الوزراء المعنيين اعيانا ونوابا وصحافيين ورجال اعمال اقلتهم في اجواء احتفالية اول طائرة حكومية عربية تحط في بغداد في مبادرة جريئة ثمنتها القيادة العراقية وخصوصا الرئيس صدام حسين، سياسيا ولكن ايضا بالاستجابة للمطالب الاقتصادية الاردنية.
هل يمتد “التكامل السياسي” الاردني العراقي العتيد ليشمل ايضا مسألة العلاقات مع اسرائيل؟ لقد اشارت تقارير صحافية الى ان بعض الخلافات برزت بين رمضان وابو الراغب حيال هذه المسألة الا انهما اتفقا على كل حال على ادانة “العدوان الاسرائيلي الغاشم” على الشعب الفلسطيني وضرورة دعم الانتفاضة والتضامن العربي بينما اعلن الرئيس العراقي لدى استقباله ابو الراغب ان “مضمون” رسالة الملك عبد الله الثانى اليه “ممتاز”.
لقد اتخذت الحكومة الاردنية بلا شك قرارا بانتهاج سياسة تتطابق مع مواقف بغداد فيما يتعلق بالحصار وذيوله وربما في مجمل المسائل التي تطرحها القضية العراقية، وهي تريد من ذلك اكثر من استعادة العلاقات الاقتصادية المميزة مع العراق، فالتجاهل الاميركي-الاسرائيلي (والمصري الفلسطيني) للاردن خلال مفاوضات الحل النهائي في كامب ديفيد وما تبع ذلك من انفجار الوضع في الاراضي المحتلة وتعامل الاسرائيليين بصلف وعدائية مع المداخلات الاردنية بهذا الخصوص، كل ذلك الى الازمة الاقتصادية الخانقة في البلاد اسهم في توجيه القرار الاردني نحو استعادة علاقات التحالف مع العراق في اطار التأسيس لتغيير عميق في السياسة الاردنية. وهو تغيير سيطوي حتما انقلاب العام 1995 /1996 لاستعادة المساعدات الخليجية والدعم الاميركي للدور الاقليمي الاردني وللانفتاح الاقتصادي على السوق العالمية، وقد فجر هذا الخيار وقتها مواجهات سياسية داخلية في البلاد مع القوى التقليدية والشعبية التي اصطفت للدفاع عن العلاقات الاردنية -العراقية، وهو ما كان شعارا رئيسيا لانتفاضتي آب 1996 وشباط 1998. فهل سيؤدي الانقلاب العراقي المضاد في السياسة الاردنية الان الى مواجهات داخلية من نوع آخر؟.
هناك قوى في الحكم وخارجه وبعضها نافذ غير راضية عن اتجاه السفينة الاردنية الحالي، ولكنها اضعف من ان تعرقل عودة عمان الى بغداد، ذلك لان تلك القوى بلا ركائز اجتماعية او شعبية او حزبية او عشائرية وهي تتشكل من مجموعات صغيرة من رجال الاعمال والسياسيين المحترفين، استطاعت ان تستأثر في وقت ما بالقرار السياسي الاردني، ولكنها لا تستطيع الان مجابهة التيار سيما وان هذه المجموعات ( الكمبرا دورية بالدرجة الاولى) هي نفسها (او معظمها) التي تشكل رافعة الخيار الاسرائيلي الذي تلقى خلال الشهر الماضي خصوصا، ضربات موجعة في ظل التضامن الشعبي الواسع مع انتفاضة الاقصى وانهيار “العملية السلمية” وضلوع الاحتلال الاسرائيلي في عدوان اجرامي متصل ضد الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة.
واذا كان من السابق لاوانه التنبؤ بانعكاسات التطور الحاصل في العلاقات الاردنية العراقية على مجمل السياسة الاردنية، فاننا نستطيع على الاقل التأكيد على نقطتين: اولاهما ان الاقتراب من بغداد يعني وكان يعني دائما بالنسبة الى عمان الابتعاد موضوعيا عن تل ابيب والثانية ان ابو الراغب اصبح يمتلك القدرة السياسة الكافية للجم معارضي برنامج حكومته، سواء اجاءت هذه المعارضة من داخل الحكم او من خارجه.0

Posted in Uncategorized.