تشابك المواطنة الأردنية – الفلسطينية:التراجيدي والكوميدي!

حزيران/تموز 2001
المقتبس
ناهض حتر
حدثان تشابكا في حزيران الغائب، وسخّناه، فوق المعدل السنوي لحرارة الصيف الأردني:
الحدث الأول: إصدار وزارة الداخلية الأردنية، جملة تعليمات “خجولة”، ولكنها تمثل الحد الأدنى المقبول لوقف المهاجرة الفلسطينية من الضفة الغربية المحتلة باتجاه الأردن، المتزايدة منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في أواخر أيلول 2000. وقد كشفت تلك التعليمات، ضمناً، وجود تلك المهاجرة باعداد لم يجر، بعد، إعلانها. والتعليمات تلك -كما توقعنا-جرى “تجميدها”، سريعاً، ما يجعل تعليقنا عليها -هنا ربما أكثر مصداقية.
والحدث الثاني: المحاولة الفاشلة التي قام بها الناطق الإعلامي باسم حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس) المهندس ابراهيم غوشة، للعودة إلى عمان، عنوة، استناداً إلى حقه الدستوري، بصفته مواطنا أردنياً، إلى “بلده”، وقتما يشاء، وبغض النظر عن أي اعتبار. وهو، بالطبع، حق مشروع ومكفول، سوى أن المهندس غوشة، يريد الاحتفاظ به، وفي الوقت نفسه، الاحتفاظ بعضويته في تنظيم غير أردني (حماس)، خلافاً للقوانين الأردنية السارية المفعول.
الحدثان يكشفان، مرة أخرى، أن تشابك المواطنة الأردنية – الفلسطينية، يشكل، بالنسبة للدولة الأردنية وللقضية الفلسطينية معاً، حقل ألغام قابلة للانفجار عند كل منحنى.
(1)
منذ انطلاقة انتفاضة الأقصى في 28/9/2000، واتضاح القرار الإسرائيلي باتباع سياسة القمع العنيف الهمجي ضدها؛ ثم، عقب نجاح داعية التهجير العنصري أرئيل شارون في انتخابات رئاسة وزراء إسرائيل، ظهرت مخاوف (تبين الآن أنها حقيقية) من أن تؤدي الأحداث تلك، إلى نوعين من الهجرة الفلسطينية باتجاه الأردن؛ الأولى، هجرة انسيابية تدرجية من بين أوساط الفئات البرجوازية في الضفة الغربية غير المهيأة، سياسياً وسيكولوجياً، على الصمود في مواجهة البطش الإسرائيلي أو على تحمل آثاره في الانهيار الاقتصادي وانعدام الأمن الشخصي، والثانية، هجرة مفاجئة كثيفة – غير اجتماعية – تنجم عن اجتياح إسرائيلي واسع النطاق لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية.
الهجرة الأولى-الاجتماعية-حدثت بالفعل. ولكن الأرقام المتعلقة بها ما تزال طيّ الغموض. فقد رشحت “معلومات” متضاربة بشدة حول عديد الفلسطينيين الذين (هاجروا) أي نقلوا، بالفعل، مكان أقامتهم الدائمة، من الضفة الغربية إلى الأردن، منذ شهر تشرين الأول الماضي وحتى الآن. فهناك “معلومات” عن ثلاثة آلاف مهاجر، وأخرى عن أربعين ألفاً، ومئة وخمسين ألفاً؛ بينما لم يصدر أي إعلان رسمي من الحكومة الأردنية يوضح الرقم الفعلي للهجرة الحادثة؛ بل ان رئيس الوزراء علي أبو الراغب، كان قد نفى مؤخراً وجود مشكلة هجرة. وتمثل الإجراءات التي أعلنتها وزارة الداخلية الأردنية لتنظيم تنقل الأشقاء الفلسطينيين من الأراضي المحتلة إلى الأردن، أول اعتراف حكومي بالمشكلة، وما زلنا بانتظار بلاغ رسمي عن حجمها.
ولا نعرف ما الذي حدا بالحكومة الأردنية، أخيراً، إلى اتخاذ إجراءات تحد من الهجرة الفلسطينية باتجاه الأردن، مع أن القضية أثيرت في الصحافة واللقاءات والصالونات السياسية، مراراً وتكراراً. فهل أن حجم الهجرة تلك، تجاوز الحد المقبول؟ وهل هناك إشارات وردت إلى الحكومة عما هو أسوأ؟ لا نعرف أيضاً. فالأمر كله غامض بصورة لا تسمح بالتحليل ويزيد الأمر غموضاً أن السفير الفلسطيني في عمان، صرح بأن إجراءات الداخلية، موضوع الحديث، تمت بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، وأنها تمثل دعماً لصمود الشعب الفلسطيني للبقاء على أرضه، ثم أُعلن أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، أرسل وزيره للشؤون المدنية، جميل الطريفي، للبحث مع الحكومة الأردنية في إمكانية تجميد الإجراءات الأردنية على الجسور؛ وبالنص: “حل مشكلة القيود الموضوعة على سفر الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن”؟! وبالرغم من أن تلك “القيود” هي ضعيفة للغاية، وهدفها الحد من الهجرة الكثيفة وليس وقفها، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية، تعتبرها مشكلة ولا تريدها!
لم تضع وزارة الداخلية، أيّ قيود على هجرة المواطنين الفلسطينيين الحاصلين على “البطاقات الصفراء” التي تعني أن هؤلاء هم، في الوقت نفسه، مواطنون أردنيون؛ ويستطيعون، بالتالي، الإقامة في الضفة الغربية أو في الأردن، حسبما يشاؤون. ولا توجد معلومات رسمية عن عديد مزدوجيّ الجنسية (الفلسطينية -الأردنية) من أصحاب البطاقات الصفراء؛ ولكن ربما كان أكثر المهاجرين الفلسطينيين إلى الأردن، يأتي من صفوفهم بالذات. فطالما أن انتقال أصحاب “البطاقات الصفراء” للإقامة في الأردن، مغطىً، قانونياً، بالكامل؛ ولا يعانون، بوصفهم مواطنين أردنيين، من أيّ قيود تحول بينهم وبين الإقامة الدائمة وحقوق المواطنة في التعليم والصحة والعمل والاستثمار والترشح للانتخابات النيابية أو الحصول على منصب وزاري؛ فمن المرجح أن هؤلاء سيكونون في طليعة المهاجرين. فلديهم الخيار الحر بين الصمود في الأراضي المحتلة أو الانتقال نهائياً إلى الأردن، وربما منها إلى الخليج أو الولايات المتحدة الأمريكية -حسبما هو متاح.
“قيود” وزارة الداخلية فرضت على المواطنين الفلسطينيين من أصحاب “البطاقات الخضراء”. وهؤلاء ليسوا مواطنين أردنيين-وإن كان بإمكانهم الحصول على جواز سفر أردني (بدون رقم وطني) -والقيود تلك، هي، في الحقيقة، تنظيمية لا سياسية؛ فهي لا تمنع أصحاب البطاقات الخضراء من زيارة الأردن نهائياً، بل تشترط الموافقة المسبقة (فيزا) والإقامة السياحية (١٤ يوماً) وتستثنى حالات رسمية وإنسانية عديدة. وعلى كل حال، فلن تسفّر الحكومة الأردنية، أيّ متسرب من هؤلاء، خصوصاً أن معظمهم سيجد الدعم السياسي المناسب في عمان، سواء أمن أوساط المتنفذين القادرين على “حل المشاكل” أو من أوساط “المعارضين” الذين يعتبرون كل إجراء لتقييد، الهجرة الفلسطينية إلى الأردن، كفراً بالقومية العربية أو الإسلام أو التضامن الأممي-حسب الحالة.
… و”القيود” الأردنية على الهجرة الفلسطينية إلى البلاد، لن تصمد، بالطبع، أمام جملة ضغوط متداخلة دولية وعربية وفلسطينية ومحلية. وهي، قبل أن تتلاشى، سوف تتآكل بالاستثناءات والوساطات. فالبرجوازيون الفلسطينيون-الكبار والصغار-في الضفة الغربية، ليسوا غرباء في الأردن، فلهم فيه عزوة ومراكز قوة ونفوذ وجماعات ضغط… أما فقراء الفلسطينيين، -بالإضافة إلى أنهم لحم الانتفاضة وعظمها ووقودها-فهم عاجزون، أساساً، عن اتخاذ القرار الحرّ بتغيير مكان الإقامة. فهذا القرار يحتاج إلى تمويل. وهؤلاء لن يهاجروا من أرضهم… إلاّ بالقوة.
مشكلة المهاجرة الفلسطينية إلى الأردن، إذن، ما تزال قائمة منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا، بلا انقطاع ولا ترشيد ولا حساب. وستظل، كذلك للأسباب التالية:
أولاً-وجود اشتباك واقعي متعدد الأشكال بين المواطنة الأردنية والمواطنة الفلسطينية. فبالرغم من قرار فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية الصادر عام 1988، ومن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية العام 1993، واعتراف عمان بالدولة الفلسطينية وقوانينها ووثائقها، وتبادل العلاقات الدبلوماسية الرسمية مع غزة؛ فإنه لم تتخذ، حتى الآن، إجراءات قانونية لفك اشتباك المواطنة بين الضفتين. فلم يجر تعديل قانون الجنسية الأردني، ولم يتم التوقف عن إصدار جوازات السفر لكل مواطني الضفة الغربية المقيمين فيها ويعتبرون من رعايا السلطة الفلسطينية؛ وما يزال قسم من هؤلاء أردنياً بالكامل (أصحاب البطاقات الصفراء) وهذا التداخل القانوني-الإداري من شأنه أن يجعل من الأردن، دولة استقبال للهجرة الفلسطينية.
ثانياً -إن قسماً رئيسياً من الأردنيين من أصل فلسطيني، ما يزال يحتفظ بكامل علاقاته العائلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مع الضفة الغربية ومواطنيها، ويمثل ذلك القسم، حاضنة اجتماعية -سياسية طبيعية لاستقبال الهجرات المستمرة المتجددة من الضفة الغربية.
ثالثاً -إن تحالفاً غير منظور، ولكنه قائم بالفعل، بين القوى المتنفذة في تلك الحاضنة الاجتماعية -السياسية المنوه عنها في الفقرة السابقة، وبين أوساط المعارضة الديموغوجية التي تجد في التواطؤ الضمني مع المشروع الشاروني، فرصة ذهبية لتهييج المشاعر الإقليمية وتأكيد حضورها من خلال شعار قوموي أو إسلاموي، يصب مضمونه الفعلي في تحريك آليات الوطن البديل.
تتضافر، إذن، عدة عوامل، قانونية واجتماعية واقتصادية وسياسية، لتجعل من المهاجرة الفلسطينية من الضفة الغربية باتجاه الأردن، سياقاً شاملاً لا مجرد حدث طارئ، ولذلك، فإذا ما شاءت عمان أن تضع، بالفعل، حداً نهائياً لتلك المهاجرة، فإن إجراءات وزارة الداخلية الأخيرة، والموصوفة بأنها “مؤقتة”، لا تكفي أبداً. فالمطلوب هو وقفة مراجعة شاملة في مواجهة سياق شامل. وبغير ذلك، فإن سيل الهجرة من الضفة الغربية إلى الأردن، لن ينقطع، لنصل، في النهاية، إلى الوضع التالي: قيام دولة البورجوازية الفلسطينية في الأردن، وانحلال الضفة الغربية إلى “معازل” مقطعة بالاحتلال، ومحكومة بالشرطة الذاتية!
ويبقى، أخيراً، بضعة أسئلة على مكتب وزير الداخلية:
-ما هو عديد الذين تخلفوا من المواطنين الفلسطينيين القادمين إلى الأردن عن العودة منذ 28/9/2000؟
– وما هو عديد كل من أصحاب البطاقات الخضراء، والصفراء، بينهم؟
– وما هي الإجراءات التي سوف تتخذها الوزارة من أجل تأمين عودتهم؟
– وما هو عديد أصحاب البطاقات الصفراء في الضفة الغربية؟ وما هي الإجراءات التي تراها الوزارة لتلافي هجرتهم إلى الأردن، أم أن هذه الهجرة ستظل خياراً مفتوحاً أمامهم؟!
***
(2)
يقف المحلل السياسي، حائراً، أمام “عودة” الناطق الإعلامي باسم حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس) ابراهيم غوشة، إلى (بلده) الأردن. فالحدث-بظلاله وتفاعلاته وعقابيله-يقع في منتصف المسافة بين التراجيدي والكوميدي.
غوشة مواطن أردني. ولايجوز، دستورياً، إبعاد المواطن الأردني عن دياره. ومهما تكن “جريمة” المواطن، فإن حكومة بلده ليس لها حق سيادي أو قانوني، في منعه من العودة إلى وطنه. لها، بالطبع، الحق السيادي والقانوني بمحاكمته على “جريمته”، ومعاقبته، في إطار قانون العقوبات الذي لا يشتمل على عقوبة النفي والإبعاد ومنع العودة. وهكذا، وبما أن غوشة مواطن أردني، ويرتبط، علناً، بتنظيم غير أردني، فإن التسلسل المنطقي لسيناريو عودته، سيكون كالتالي: الاعتقال والمحاكمة والعقوبة. ولكن ليس منعه من العودة. سوى أن الحكومة الأردنية، بالطبع، لا تريد أن تدخل في مجابهة قانونية مع قيادي فلسطيني. فغوشة، بالرغم من كونه مواطناً أردنياً، هو، أيضاً، قيادي فلسطيني، وهو، شخصياً، يريد الاحتفاظ بالورقتين معاً. إنه-ومن ورائه (حماس) وأنصارها الأردنيون-يريد، علناً، أن يعود إلى “بلده” الأردن، متمسكاً بحقوقه الدستورية بصفته مواطناً أردنياً، ومن أجل القيام بدوره في تنظيم فلسطيني!
رئيس المكتب السياسي لـ (حماس) خالد مشعل، يوسّط قادة وسياسيين عرباً؛ ولكن على قاعدة “حل الأزمة” بما يضمن عودة غوشة إلى بلده، بدون أن يتخلى عن كونه قيادياً فلسطينياً، أي أن مشعل يريد من الوساطات أن تمارس الضغط على عمان، لكي تخضع لشروط (حماس) الملحّة على حقّ المواطن الأردني من أصل فلسطيني بأن يكون عضواً في تنظيم فلسطيني، ويخاطب مؤسس (حماس)، الشيخ احمد الياسين، الملك عبد الله الثاني، لكي يكسر القرار الحكومي -الأمني المؤسسي، أي أنه، بوضوح، يدعو الملك إلى التجاوز على المؤسسية الأردنية.
ولم يلتفت مشعل أو ياسين، إلى أنهما، بخطابيهما هذين، يعربان عن احتقارهما للدولة الأردنية، ومؤسساتها، وقوانينها، ومصالحها. فهما يستقويان بالقادة العرب، لإخضاع “الدولة”، وإهانة قراراتها، والدفع نحو رجعتها إلى ملكية رئاسية استبدادية، بدلاً من دعم نضال الشعب الأردني لتطوير دولته إلى ملكية دستورية.
ويقول مشعل أن غوشة ليس، حسب، مواطناً أردنياً، بل شغل مناصب رفيعة، في إطار مهنته كمهندس، في “بلده” الأردن، حيث منزله وأهله. ولكن التراجيدي، هنا، يفضح الكوميدي… فكل هذه السنوات من التأردن، والجنسية، والحقوق الدستورية، والمنزل، والاستقرار، والمناصب الرفيع، لم تستطع أن تدمج غوشة بالدولة الأردنية. وبقي الأردن، عنده، مساوياً لتلك الامتيازات التي يتمسك بها بدون هوادة؛ ولكنه، بالمقابل، ظل فلسطينياً. ودلاله ذلك، أن إسلاميته وديناميكيته السياسية لم تدفعاه إلى عضوية الإخوان المسلمين الأردنيين، أو توجيه نشاطه السياسي من أجل استقلال الأردن وتقدمه وتطوير دولته، بل دفعتاه إلى عضوية (حماس) وتكريس نشاطه للشأن الفلسطيني، لا بالمعنى القومي -كما يمكن أن يفعل أيّ أردني، ولكن بالمعنى القطري-كما يتوجب على أي فلسطيني.
***
يوجد، بالطبع، فارق نوعي لابد من ملاحظته بين كوني أردنياً معادياً للكيان الصهيوني وللاحتلال الإسرائيلي، وبين كوني فلسطينياً من الموقع السياسي نفسه. في الحالة الأولى، وبصفتي مواطناً في دولة، فأنا لا آخذ على عاتقي ممارسة القتال ضد إسرائيل، بل أسعى، بالوسائل الدستورية الديمقراطية، إلى إحداث تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية ودفاعية، على مستوى الدولة الأردنية، نحو قيامها بالقتال ضد إسرائيل. بمعنى أن نشاطي السياسي المعادي لإسرائيل، سيكور منحصراً بمحاولة الضغط على الحكومات الأردنية لاتخاذ مواقف تنسجم مع موقفي. ولكن، بالنسبة للفلسطيني، فالأمر مختلف. فواجبه الشخصي هو النضال المباشر ضد الاحتلال. وأضرب مثالاً آخر في مسألة الوحدة العربية. فأنا كأردني وحدوي. وسأناضل من أجل أن تتبنى الدولة الأردنية مواقف وحدوية. ولكن، عندما أقوم، شخصياً، بممارسة “الوحدة” مع هذا النظام العربي أو ذاك، تحت الشعار الوحدوي، فسأكون إذ ذاك فوضوياً، لا مناضلاً قومياً. وقلت: “فوضوي” حتى لا أستعمل صفات أخرى ليس كثير من القومويين بمنأى عنها.
لكن، في كلام مشعل حول أن مسألة غوشة تمس “بالأردنيين من أصل فلسطيني” شيء من الحقيقة. فالحكومات الأردنية، تمارس، بالفعل، خطاباً مزدوجاً حيال هؤلاء. فهي تلح عن أنهم أردنيون-وهم بالفعل كذلك من الناحية القانونية -ولكنها تتعامل معهم، سياسياً، باعتبارهم فلسطينيين-وهم بالفعل كذلك عن الناحية الواقعية…
هنا نقف أمام تراجيدياً اسمه: الأردنيون من أصل فلسطيني، فهؤلاء مواطنون أردنيون؛ ولهم في الأردن حضور واستقرار وحقوق ومصالح ومستقبل بل أن أغلبيتهم لا تستطيع، (واقعياً) أعني، اجتماعياً واقتصادياً، العودة إلى فلسطين، حتى لو كانت هذه العودة ممكنة غداً صباحاً. ولكنهم، في الآن نفسه، منخرطون في عصبية الوطنية الفلسطينية على نحو يمنعهم سياسياً وسيكولوجياً، من الانخراط في الدولة الأردنية؛ بل أن بعضهم، ممن “انخرط” فعلاً في أجهزة الدولة الأردنية، وتقلد فيها أعلى المناصب، لا يلبث أن يعود، حالما يغادر موقعه الرسمي، إلى تجديد انتسابه للعصبية الفلسطينية.
وهذا “الواقع” الذي لا يمكن إنكاره عن قبل مراقب نزيه، يشلّ الدولة الأردنية وتطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي. وهو، في الوقت نفسه، يثقل على هؤلاء الأردنيين من أصل فلسطيني، ويدفع بمعظمهم إلى مركنتيلية تمارس نشاطها على الهامش، وخارج الزمن. فالزمن هو زمن الدولة، أي الزمن السياسي الدنيوي الذي يشكل الإطار الصلب لكل نشاط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي حقيقي، أي فعال ومثمر وبنائي، هو، وحده، الذي يعطي للحياة الفردية معناها، ويقيم تلك العلاقة غير المنظورة، ولكن العميقة والمتشعبة، بين الإنسان والأرض، في إطار المجتمع والدولة. ذلك الاطمئنان الوجودي التاريخي الى الاستمرار، والتعاقب، والقدرة على هزيمة الموت البيولوجي بالانتماء إلى حياة صنعناها، وتبقى. وهو ما حُرِم قسم كبير من الشعب الفلسطيني منه؛ فظل بين مخالب المنفى، سواء أكان بجنسية وحقوق دستورية أو بدونهما. بل أنه، في الحالة الأولى -أي بحصول الفلسطيني على الجنسية والحقوق الدستورية كما هو حاصل مع الأردني من أصل فلسطيني-سيتحايل هذا على منفاه بالاحتفاظ بجميع الأوراق، واللعب بهذه… وتلك، حسب الحاجة؛ فيتحول التراجيدي، هنا، إلى كوميدي.
***
“علّقت” الحكومة الأردنية، ابراهيم غوشة، في المطار؛ ولكنه “علّقها” في أزمة دولة، تُغَطَّى بالصمت والإنشاء العاطفي والتكاذب، ولكنها تنكشف على العظم، عندما يلح شيخ ضعيف ومريض ووحيد على حقوقه الدستورية كأردني، وعلى حقوقه السياسية… كفلسطيني؛ في لحظة التساوي والتشابك بين التراجيدي والكوميدي.

Posted in Uncategorized.