كركيات

ناهض حتّر

أكتب من الكرك.
وأنا أقضي إجازة خاصة، ليوم واحد، في “خشم العقاب”… أحب هذه “المدينة” وأحب أهلها. ويذكر قرائي المهتمون بالأمر أنني كتبت عن الكرك ودورها في التاريخ الأردني الحديث، والسياسة الأردنية، الكثير من الصفحات التي ما تزال-لأسفي– مبعثرة.
التشوه “العمراني” ما يزال يحجب جمال الكرك عن أعين المحبين. والمنشآت السياحية المستجدة من فترة الأوهام السلمية، لم تفعل شيئاً إيجابياً في هذا المجال. وهذه المنشآت، المرافق من مطاعم وفنادق خاوية. ووصل أصحابها إلى ما يشبه اليأس وتزيدهم “الأخبار” يأساً! إن عشرات المستثمرين يدفعون غالياً ثمن ما صدقوه من الأضاليل التي روجتها زفة ال 4991 والقائمة على فكرة قصيرة النظر وسخيفة، مفادها بأنه يمكننا القفز عن الصراع العربي-الإسرائيلي إلى سلام ثنائي مع إسرائيل. ونسينا أننا في أعين الغرب-والسياحة الغربية بالتالي-منطقة واحدة. وما يحدث في فلسطين، لبنان، سورية، العراق… سيكون له صداه هنا… بل كأنه يحدث هنا أكثر لأننا في أطراف المنطقة لا في مركزها. وبالنسبة للسياحة العربية؟ فماذا يفعل السائح العربي في الكرك؟! السياحة هنا ثقافية وروحية بامتياز! وحول الكرك، هناك، بفضل المزارات، سياحة دينية مبعثرة ومتعثرة ولم تأخذ بعد شكلاً منتظماً مؤثراً.
وأجدني عاتباً على بلدية الكرك وعلى أبنائها من أساطين النخبة العمانية وأعضائها العاديين… إنهم يبدون أقل الاهتمام بمدينتهم التي تحتاج إلى الكثير من المبادرات الجماعية والفردية، المؤسسية والشخصية، لتحسين مستواها المديني الذي يتآكل ويتراجع، بحيث تبدو “المدينة” خليطاً قروياً -مدينياً من غير انسجام ولا أصالة. ولا تصدمك الشوارع الضيقة المزدحمة فقط، بل نضطر أثناء وقوف السيارة الإجباري إلى الاصطدام هذه الآرمات “الحديثة” البشعة التي تفرض نفسها على المكان… المكان الغائب تحت ضغط البناء الذي لا يضمر أي جماليات… وكأن “المدينة” مخيم… والبنايات معدة للاستخدام الخام الأولي. ما يهم المواطن امتلاكه غرفتين ومنافعهما للسكن، غير مهتم بالشكل الخارجي الخاص لمنزله مثلما لا تهتم البلدية أو أي جهة عامة بالشكل العام “للمدينة” التي “تتطور” بجمود.
***
آخر مره جئت إلى هنا لم ألاحظ غير مؤشرات الغضب الاجتماعي-السياسي. وكان ذلك في العام 1998 حين منعت المحافظة نشاطاً ثقافياً لي، وطلبت إليَّ العودة إلى عمان عاجلاً. وكل المؤشرات الكركية، اليوم، تقول بسكينة اجتماعية وهدوء وهبوط في البارومتر السياسي بالرغم من أن الوضع المعيشي أصبح أسوأ مما كان عليه قبل بضع سنوات.
ويبدو أن الكركية -كسائر الأردنيين -ربما أدركوا أنهم خسروا الجولة الأولى من الصراع مع قوى الكمبرادور وأيديولوجية “الخصخصة” الشاملة، فيلاحظ أنه ثمة قبول عام بين أبناء العشائر (الذين أنعشتهم دولة الرعاية الاجتماعية بين الستينات والثمانينات) للتحول نحو البروليتاريا… وكمثال ففي مشروع يشتغل ٧١ كركيا ًعمالاً بالمياومة… وهو ما كان مقصوراً-حتى وقت قريب-على العمالة الوافدة.
إذاً، هناك تغير في الوعي الاجتماعي وقيم العمل-كما يلاحظ رفيقي في الرحلة، علي حياصات-كما يلاحظ أن ذلك لم يؤثر على التسامح الاجتماعي والديني لأن الكرك-كما يقول-ما تزال تخضع مئة بالمئة للمؤثرات الأردنية التقليدية.
ليس مئة بالمئة أيها الصديق. فهذه المدينة الأردنية العربية التي ما يزال أهلها نشامى، وما نزال نستطيع فيها أن ننعم بمنسف غيرَ مُعَدٍّ له على مائدة مضيف كريم… هي خاضعة، أيضاً، للتحولات العالمية والعربية والوطنية. فأبناء العشائر الذين حاولوا-منذ ربيع 1989-التأثير على العملية الاجتماعية-السياسية المضادة بوساطة المطالب الديمقراطية (المشاركة في القرار) بدأوا ينخرطون-اليوم-في هذه “العملية” التي تحدوها، طوال عقد كامل، وفي الموقع المعد لهم: بروليتاريين ومهمشين وعاطلين.
***
الهدوء الاجتماعي-السياسي في الكرك هو أساس الهدوء الذي يعم الأردن… نحو اصطفافات جديدة.

Posted in Uncategorized.