الهوية الأردنية في سياقها التاريخي الاجتماعي

العرب اليوم

ناهض حتّر
على المستوى النظري، استوردت الحركة القومية العربية، مفهوم الدولة/الامة من السياق التاريخي الاوروبي، متجاهلة السياق التاريخي العربي، والشرقي بعامة، حيث وجدت وتوجد امم مكونة من شعوب ودول، فمفهوم الامة-عند العرب-لا يتطابق مع مفهوم الشعب، لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية التاريخية، الامة، عند العرب، هي رابطة ثقافية بالمعنى الشامل (اللغة والدين والقيم الاساسية… الخ) ورابطة سياسية بالمعنى الجهادي الخاص الذي بلوره الاسلام، لا بمعنى الدولة، اي تقع الاشارة الى الامة تمييزا عن الاخر من جهة، وتأكيدا على المصالح المشتركة -وبالاخص الدفاعية- ضد الغزوات التي تهدد الوجود المشترك، من جهة اخرى، واذا كانت الامبراطوريتان الاموية والعباسية انتظمتا كل مجال الامة في دولة واحدة، فينبغي اولا، ان نلاحظ اننا نتحدث هنا عن دولة/ مركز لا عن دولة مركزية وهي دولة/ مركز، تتيح، في الحقيقة استقلالا شبه كامل للاقاليم، كذلك، فان تاريخ العرب شهد، لحقب مديدة، نشوء العديد من الدول في الاقاليم، والدول/ المراكز، المتعايشة في اطار الامة.
والفكرة التي تبنتها الحركة القومية العربية حول تجزئة الوطن العربي من قبل الاستعمار في الربع الاول من القرن العشرين، هي فكرة عثمانية بالكامل، اي انها ترى الى الدول العربية الحديثة من وجهة نظر الامبراطورية العثمانية. وهذه الامبراطورية لم تكن دولة/امة بل دولة/ مركز تقع خارج الرابطة العربية، ويشكل العرب جزءا منها، فهي اذا، لا تشكل معيارا.
وكذلك، فان هذه الفكرة خاطئة ايضا. فبالمقارنة مع بدايات القرن، نجد الدول العربية الحديثة قد اختصرت، في الحقيقة، اشكالا عديدة من التجزئة: فمعظم الجزيرة العربية توحد في المملكة العربية السعودية، وانتقل اليمن من التبعثر السياسي والتفتت الى دولتين، واخيرا: دولة واحدة. وكذلك الحال بالنسبة للامارات العربية المتحدة. والعراق الحديث هو، في الحقيقة، مثال آخر على تجاوز التجزئة الداخلية الى دولة حديثة موحدة. هذا، بينما كانت دول المغرب العربي راسخة الجذور قبل الغزو الاوروبي الحديث، وهكذا، فان وجود الكيانات/الدول العربية معطى تاريخي. والاتجاه العام، في هذا المجال، هو اتجاه تجاوز التجزئة.
الاقليم العربي الذي جزأته الامبريالية حقا، هو اقليم بلاد الشام، حيث يوجد مشترك اساسي لقيام دولة سورية واحدة، وحيث وجدت الارادة السياسية شبه الجماعية لدى المجتمعات السورية المحلية لاقامة مثل تلك الدولة، ولكنها – اي تلك الارادة – قمعت من قبل الامبرياليتين الانجليزية والفرنسية، اولا بتجزئة الاقليم الى منطقة انجليزية واخرى فرنسية، وثانيا بتجزئة المنطقة الانجليزية الى اقليمين لاتاحة قيام الدولة الصهيونية في فلسطين، وثالثا، بتجزئة المنطقة الفرنسية الى دولتين، سورية ولبنان، استجابة لنزعة الانفصال المارونية التي وجد فيها الفرنسيون امكانية لاقامة كيان موال سياسيا وثقافيا.
وبما ان الحركة القومية العربية نشأت وتطورت انطلاقا من بلاد الشام، فقد تجذرت فيها فكرة مؤامرة «التجزئة» وجرى تعميم الخاص السوري على العالم العربي.
لقد كان التقسيم الفرنسي -الانجليزي لبلاد الشام جائرا ليس فقط بمعنى انه منع قيام دولة سورية واحدة ولكن، ايضا، بمعنى انه كان، الى حد بعيد، هندسيا، ولم يأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على الاقاليم السورية، فإقليم شرق الاردن قلص الى 3 محافظات بدلا من الخمس التي تشكل قوامه التاريخي والاجتماعي (حوران، الجولان، عجلون، البلقاء، الكرك…) ثم قلص، ثانية، باقتطاع وادي السرحان منه (وضمه الى السعودية) بينما كبر الاقليم اللبناني ليشمل محافظات شامية اصيلة، والاقليم الذي روعي بدقة هو الاقليم الفلسطيني بسبب الخرائط الصهيونية.
واذا كانت الارادة الوطنية السورية استطاعت الغاء الدول / المحلية، وتوحيد المجتمعات المحلية في القسم الرئيس من بلاد الشام الذي عرف بالجمهورية العربية السورية، فانها اصطدمت بالجدار فيما يتصل بدولتي لبنان والاردن وبالمشروع الصهيوني في فلسطين.
في هذا السياق التاريخي، نشأت الهويات الوطنية في بلاد الشام مثلمة، ناقصة، وغير متطابقة مع المجتمعات المحلية ومع ذلك، فان تجاهل وجود هذه الهويات، وتجاهل اصالتها الاجتماعية -التاريخية، غير مجد، بل هو يمنع في الحقيقة، ايجاد صيغة واقعية للوحدة او الاتحاد بين الاقاليم الشامية، حيث توجد الان، هوية مركزية مؤجلة في الجمهورية العربية السورية، وثلاث هويات اقليمية: هي اللبنانية، والفلسطينية والاردنية، وبما ان الهوية الاولى والثانية معترف بها، واصبحتا، اليوم، شرعيتين… هناك، بالفعل، ضرورة لفحص مدى اصالة الهوية الثالثة (الاردنية).
اقليم شرق الاردن جزء من سوريا ولكنه مستقل عنها، وهو منفتح على الصحراء ولكنه منفصل عنها، مما ادى، عبر التاريخ، الى تكوين اجتماعي فريد مستقل هو الاخر عن الحاضرة الشامية في الشمال والريف الفلسطيني في الغرب، والصحراء في الشرق والجنوب، فالاستقرار الفلاحي الوطيد هنا تشكل من توطن العشائر البدوية التي تحولت في المرتفعات الى اتحادات مزارعين احرار بدون ان تفقد تنظيمها العشائري وقدراتها وقيمها وتقاليدها القتالية البدوية، وذلك لكي تكون قادرة على رد الغزو البدوي الاتي من الصحراء المحاذية، وهكذا، فمن وجهة نظر البدوي: فالاردني هو فلاح، ومن وجهة نظر الفلسطيني، فالاردني «بدوي» ولعلنا نتلمس بعض اوجه هذه الظاهرة في اماكن اخرى في الداخل السوري، ولكنها تستغرق التكوين الاجتماعي لاقليم شرق الاردن كله، وتتحصن في حدود الجغرافية الصلبة.
تشكلت البنية الاجتماعية الاردنية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث تقاطع الصراع التقليدي بين البدو والفلاحين مع مؤثرات خارجية اهمها (1) اتجاه العثمانيين، الراغبين بتجديد الدولة وتحصينها، الى اختراق الداخل الاردني، والسعي الى فرض الأمن وبناء ادارات حكومية، وقد تطلب ذلك تشجيع استقرار البدو ودعم الزراعة. (2) التطور الاقتصادي في السواحل الشامية وتنامي ارتباطها بالسوق الرأسمالية العالمية، مما اوجد طلبا متزايدا على السلع الزراعية الاردنية: القمح والحبوب والدواب والماشية وغيرها.
لقد خلقت الظروف المواتية، لحسم الصراع الداخلي لمصلحة الزراعة والاستقرار، فنشأت مئات القرى والبلدات والمضارب المستقرة، التي كانت، في الوقت نفسه «معاقل عشائرية» وفي مطلع القرن الحالي، كانت «الحروب» البدوية -الفلاحية قد انتهت تقريبا، واستقرت العشائر، على نوع من تنظيم نصف فلاحي -نصف بدوي، في مناطق متلاحمة داخليا بصورة كافية لكي ينظر مثقفوها، القادمون من هزيمة المملكة السورية على يد الفرنسيين عام 1920، الى شرق الاردن بوصفه قطرا، ولكي يفكروا في بناء دولة اردنية، قبل تأسيس الامارة العام 1921.
شهدت العشرينات والنصف الاول من الثلاثينيات، صراعا بين العشائر والامارة، انتهى بعقد اجتماعي داخلي، تبلور، في السنوات اللاحقة، على اساس اتباع سياسات مرنة تجاه المعارضة الداخلية، فتمت الاستجابة لمطلبها السياسي الرئيس، وهو وقف نشاط الوكالة اليهودية، واليهود، على الاراضي الاردنية، نهائيا، وبموجب قوانين. بالاضافة الى التجاوب مع مطالبها الاخرى، بما في ذلك الاعتراف بالنفوذ المحلي للعشائر و«مصالحها» واستيعاب عدد متزايد من ابنائها في الجيش والادارة، وتوجيه قدر اكبر من الانفاق الحكومي للخدمات العامة والزراعة.
ولعل الحرب الفلسطينية الاولى، وضم الضفة الغربية الى «المملكة الاردنية الهاشمية» التي كانت قد اعلنت و«استقلت» عام 1946 قد ختمت هذا الفصل من تاريخ الاردن، الذي شهد، في الخمسينيات، ولادة الحركة الشعبية الحديثة التي اطلقتها حركة التحرر الوطني العربي، واندلع صراع عنيف بينها وبين النظام، هنا انشقت العشائر الاردنية على اساس بدوي-فلاحي، فانخرط ابناء الفلاحين في التنظيمات الحزبية، وبخاصة البعثية والشيوعية، وشكل العسكريون منهم، تحت اغراء الانموذج المصري، حركة اردنية للضباط الاحرار.
ومع وصفي التل، مطلع الستينيات، عاد التحالف الداخلي الى التشكل في اطار شامل يقوم على بناء نسخة اردنية وفي ظل الملكية، من دولة القطاع العام الناصرية – البعثية: قطاع عام، وخطاب قومي، وعقيدة اجتماعية – اقتصادية بورجوازية صغيرة، وجهاز مخابرات قوي، وتوظيف واسع النطاق في المؤسسات العامة والحكومية والجيش، وبكلمة استيعاب العشائر التي استقطبت، في صيغتها الجديدة، بعثيين وشيوعيين وضباطا احرارا سابقين من ابناء العشائر، فنشأ تلاحم داخلي اساسي، شكل الاطار الصلب لهوية وطنية مميزة، تطورت في السبعينات والثمانينات، باتجاهين: بيروقراطي تجسد في الادارة ورجالها، وشعبوي تجسد في حركات الـ 89 والـ 98 وتعبيراتها السياسية والثقافية.
وهذه المطالعة التاريخية -التي قدمنا موجزا عنها -لا تتجه الى نظرية سياسية تسد الافق امام المهمة التاريخية التقدمية المتمثلة في الوحدة السورية (وهي مهمة تشتمل، ضمنا، على التصدي للمشروع الصهيوني في بلاد الشام وعزله وتصفيته في النهاية) ولكنها تلحظ اصالة المجتمع المحلي الاردني واصالة هويته وبالتالي، فهي تؤسس للشرعية الاجتماعية-التاريخية للدولة الاردنية الحديثة، من اجل حسم النقاش، نهائيا في هذا الموضوع. وحسم النقاش هنا لا يعني فقط الشكوك التقليدية للقوميين حيال الكيان الاردني فقط، ولكن ايضا وبالاساس الى محاولات التلاعب بهوية هذا الكيان، وتغيير طابعه ومضمونه لمصلحة المشروع الصهيوني.0

Posted in Uncategorized.