ارهاب… وشموع… ودموع!

ناهض حتر

صبيحة الأحد (١٦ أيلول ٢٠٠١) في أحد شوارع ضاحية “الشميساني” الراقية في عمان، لفتت الانتباه، صبيّة معتدّة، تمشي مسرعة ببنطال جينز وتي شيرت أبيض… بالعلم الأميركي وأسفله العبارة التالية: (I support America).
أهو اعلان مبكّر عن انضواء الأردن في “التحالف الدولي ضد الإرهاب”؟ ربما، فلا بد أن الصبية المعتدّة بالتضامن مع الضحايا الأميركيين، استمدت العزم من مشاركتها، الرسميين وممثلي الهيئات وشيوخ العشائر ووجهاء المخيمات وطلبة المدارس وسواهم من الذين أموا، بالآلاف، خيمة العزاء التي نصبتها السفارة الأميركية بعمان -على الطريقة الأردنية -بجوار قلعتها الحصينة في ضاحية “عبدون” الارستقراطية. وربما أن الصبية الجريئة سوف تذهب، هذه الليلة، إلى “جبل القلعة” الأثري، لتوقد -مع المئات-الشموع لذكرى كارثة مانهاتن.
احدى اليوميات، ستكون أجرأ، وتؤكد، في اليوم نفسه، ان تدفق المواطنين الأردنيين على خيمة العزاء الأميركية، ما هو إلّا “تعبير عن مدى التلاحم الذي يربط الشعبين الأردني والأميركي”، ولكن يومية أخرى تبزّ الجميع فتنشر لأحد كتابها، “فتوى” يقول فيها ان “الارهاب فساد في الأرض” و … “جزاء المفسدين في الأرض أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.” وقد أصدر الكاتب هذه الفتوة، قبل أن تعلن، في اليوم التالي، الفتوى الرسمية التي اصدرها، حسب الأصول، “مجلس الافتاء في المملكة الأردنية الهاشمية”، وأدان فيها، صراحة، كل أشكال الإرهاب بعامة، والهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأميركية في ١١ أيلول ٢٠٠١ بخاصة.
وإذا بدا السفير الأميركي لدى عمان، ادوارد غنيم، راضياً عن مشاعر الأردنيين الصادقة إزاء الأميركيين، فإن المستشار الإعلامي للسفارة، ألبرتوم فرناندز كان مبتهجاً للأعداد الكبيرة من المواطنيين “العاديين” الذين زاروا خيمة العزاء؛ واعتبر ذلك “تعبيرا ًعن مدى المحبة التي يكنها الأردن لأميركا” بل انه بعد أن أكد ثقة السفارة بصدق شعور الأردنيين، أعلن أن العلاقة بين الشعبين هي “علاقة أزلية”.
***
وكان الأردنيون -مثل غيرهم من العرب -استقبلوا أخبار النكبة الأميركية في ١١ أيلول، بالترحاب؛ وجلسوا أمام شاشات التلفزيون، يتابعون الفضائيات، ويتلذذون بمشاهد انهيار مركز التجارة العالمي في نيويورك. ووزعت محلات الحلويات، في المناطق الشعبية، بضاعتها مجاناً بالمناسبة. ولم يكن الموظفون، في اليوم التالي، راغبين بالعمل، وشكلوا حلقات لتبادل الأخبار، المفصلة والتهاني. وربما كانت هذه، عند البعض، مظاهر تشي بوعي دموي؛ إلّا أن مشاعر الابتهاج الشعبي بالضربة غير المتوقعة التي أصابت الولايات المتحدة الأميركية في عقر دارها، يمكن فهمها، على كل حال، بالنظر إلى أن ذلك البلد يعتبر مسؤولاً عن آلام الشعبين الفلسطيني والعراقي.
ومهما يكن، فإن مشاعر الابتهاج تلك بدأت -أو على الأقل -بدأ الإعلان عنها بالتراجع، في حين أخذت تتشكل، سريعاً أجواء جديدة من الحزن على الضحايا، والتنصل من الإرهاب وإدانته. وربما تكون هذه الأجواء الجديدة، نابعة من اكتشاف حجم المأساة الانسانية الناجمة عن الحدث الإرهابي؛ وربما تكون نابعة من اكتشاف البورجوازية الأردنية أن الخسائر الهائلة التي لحقت بالاقتصاد الأميركي جراء الهجمات، قد ألحقت الضرر بمصالح المستثمرين الأردنيين في الأسهم والسندات الأميركية وفي الودائع بالدولار الأميركي، حيث بلغت خسائر هؤلاء، في تقدير غير رسمي، نصف مليار دولار أميركي (وهو رقم ضخم جداً بالنسبة للقدرات الأردنية)، وذلك بالإضافة الى خسائر بورصة عمان، حيث تراجعت اسعار (٦٨) سهما، وفقد مؤشر البورصة (5,27) نقطة.
وربما تكون “الصحوة” على التحسب من ردة الفعل الأميركية على المنطقة بأسرها، هي التي دفعت بعدة أوساط أردنية إلى المبالغة في إظهار الحزن والمناوأة للإرهاب… وهو ما يشكل، في العمق، مظهراً للتغيير الحاصل في أخلاق الأردنيين الذين ربما أصبحوا، في السنوات العشرة الأخيرة -أكثر تسامحاً مع النفاق، وأكثر استعداداً لممارسته، على الضد من المنظومة القيمية التقليدية في الأردن.
ولن نغفل، بالطبع، صورة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وهو يتبرع بالدم لجرحى مانهاتن، وارسال الاطفال الفلسطينيين الى القنصلية الأميركية، مع ورود العزاء أو اجبار اكثر من مليون طالب وطالبة في المدارس الفلسطينية على الوقوف دقيقة حدادا على الضحايا الأميركيين… فكل هذه كانت إشارات حاسمة موجهة، أيضاً، إلى الجمهور الفلسطيني في الأردن لتغيير سلوكه، والمبادرة إلى نشاطات تضامنية مع الأميركيين.
ومع ذلك، فإن التفسير الأكثر دقة لانقلاب الأجواء من “البهجة” إلى “الحزن”، يكمن، على الأرجح، في أن عمان حسمت أمرها باتجاه الانضواء في التحالف الدولي المضاد للإرهاب.
ولعل الرسالة الأميركية وصلت، اسرع، إلى الفلسطينيين، فانتقلوا من رصاص الابتهاج إلى ورود الرحمة، ولكن مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، وليم بيرنر، أبلغ (يوم الجمعة ١٤ أيلول ٢٠٠١) السفراء العرب لدى واشنطن، ان على بلدانهم الاختيار بين الانضمام إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب وبين الانعزال عن المجتمع الدولي؛ وطلب إليهم إعلام حكوماتهم بضرورة قيامها بالقبض على الإرهابيين ومقاضاتهم أو تسليمهم للدول التي تطاردهم، ودعم المبادرات الدولية ضد الإرهاب، بالإضافة إلى شن حملة سياسية واعلامية وجماهيرية داخلية للتنديد بالإرهاب… “وبغض النظر عن أهدافه المعلنة.”
***
الأردن الواقع بين جرحين نازفين بمدى السياسات الأميركية في فلسطين والعراق، والمهدد هو نفسه من قبل اسرائيل الشارونية، مطالب، اليوم، إذن، بأن يشارك في الحملة ضد “الإرهاب” على أرضه. وإذا كانت عمان غير متسامحة ابداً، من الناحية الأمنية، مع العناصر الإرهابية، فربما يكون المطلوب، بالضبط، هو حملة قمعية ضد الاتجاهات الوطنية المعادية للتحالف الأميركي-الإسرائيلي. فالدول التي تريد الانتصار لقضية مكافحة الإرهاب، ليست مدعوة للمشاركة في حملة عسكرية على افغانستان، ولكن للعمل على تنظيم حملة امنية-سياسية في الداخل. وربما يشمل ذلك، للأسف، سلسلة جديدة من القوانين الاستثنائية والتعليمات والإجراءات التي تسلب المواطنين حقوقهم الأساسية في حرية التعبير والاجتماع والتنظيم والعمل السياسي. وإذا كانت الترجمة الحرفية للمطالبات الأميركية هي القضاء على الهامش الديمقراطي المتقلص، أصلا ًفي الأردن، فمما لا شك فيه أن الاستجابة للطلبات تلك، ستؤدي، حتماً، إلى احتقان الحياة السياسية في البلاد التي قد يغدو فيها مجرد اعلان التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية أو مع العراق المحاصر، أو التنديد بالسياسات الأميركية، “أعمالاً إرهابية”؛ لا بد من قمعها للحصول على شرف العضوية في التحالف الدولي المناوئ للإرهاب.

Posted in Uncategorized.