لعن الله القائل: لكل مقام مقال

العرب اليوم
ناهض حتر
تنبع «سلطة المثقف» من شبكة معقدة من السلطات المعرفية والاجتماعية والاخلاقية. سلطة المعرفة، هنا اساسية، ولكنها ليست حاسمة. الحاسم هو الالتزام الذاتي بالقيم الثقافية الرئيسية: الحرية، الحقيقة، اولوية المجتمع، الروح النقدية، والاستعداد للتضحية.
وليست المعرفة في الانسانيات محايدة فالتزامات المثقف الاخلاقية والاجتماعية، تحدد مكونات خطابه واصالته، الخطاب على هذا ليس ثرثرة بليغة، فالقول يرتبط بقائله… اللهم في الشعر العظيم والموسيقى العظيمة… الخ حيث تلعب الموهبة الدور الرئيسي عند الفنان. ولكن الفنان ليس المثقف. وقد يكون الفنان، مثقفاً خاضعاً لشروط ومواصفات المثقفين ولكن هذه حالات نادرة في البلاد العربية وخصوصاً في الاردن حيث يختلط الحابل بالنابل على المستوى السيسوثقافي ويبرز انموذج شبه المثقف. وهو يمتلك قدرات ثقافية ولكنه لا يدرك المسؤوليات الاخلاقية الملقاة على عاتق المثقف، ان الثقافة والتزاماتها ليست هي اولوياته المطلقة بل «الصعود» في السلم الاجتماعي او المالي او الوظيفي. انه يعرض «بضاعته» ويعيد تغليفها بالشكل الذي يرضي المشتري. انه لا يعيش معاناة فكرية وجدانية تاريخية كالمثقف، بل معاناة شخصية نفسية… ولا يعرف قلق الوجود… بل قلق التاجر ولا يعرف فرحة الفكرة… بل فرحة الربح!
واذا كسدت بضاعته، سوف يهذي باللعنات على رأس العالم.
لماذا «شبه مثقف»؟ لانه لن يواصل أبداً، مسيرة المعاناة الفكرية من فقد الذات والعالم، حتى النهاية. لن يدفع الثمن الغالي للحقيقة، ولذلك تراه يدوِّر بضاعته القديمة حسب الطلب. من هنا جاء المثل الانتهازي:
«لكل مقام مقال».
وفي الانظمة السياسية غير المؤسسة على صناديق الاقتراع، تظهر حاجة السلطة الى استهلاك اشباه المثقفين وتوظفهم وتوزرهم او تشتري مدائحهم وكتاباتهم. حسب الحظ والنصيب… فقد تجتمع المصادفات لتمنح شبه المثقف موقعاً في اعلى السلّم الوظيفي او في منتصفه او عند اسفله او ان يظل يدور حول السلّم ذاك، راضياً بالفتات بعضهم اكتشف «اللعبة».
انها غير دائمة. السلطة تعامل اشباه المثقفين مثل علبة المياه الغازية، تشربها او تشرب بعضها. ثم تلقي بها في «السلة» ولذلك، يغتنم هؤلاء فرصة الطلب… للحصول على الثمن… نقداً… أو بالفساد او بكليهما. المهم ان كل «الانتاج الثقافي» بعد ذلك، يغدو عبثاً في عبث… لان القول مثلما اسلفنا -يرتبط بقائله. وعندما يصبح المرء «مثقف السلطة» فانه يخسر ثروته الاساسية: سلطة الثقافة وانا لا اقفل باب التوبة «النقد الذاتي» لكن هذا النقد ينبغي له، اولا: ان يكون علنياً وشاملاً وجذرياً، ومرتبطاً، ثانياً بالالتزام بالنسبة للمستقبل.
لا يجوز نسخه، لعب دور مثقف السلطة. ان يجلدني، وهو خارجها، بسلطة الثقافة.
لن نقرأه. فهو لا يعني ما يقول وهذا القول هو اللعب في الوقت الضائع. اذاً دعوه للقيام بدور «مثقف السلطة»، في الشوط الثاني، فهو سيلبي النداء وهذه ليست نبوءة… انه تفكيك للحالة. كيف يقنعني خطاب فوار بالروح القومية قائله تقلب في مناصب سياسية عديدة في حكومات الصلح مع اسرائيل. وهذا بعض المشهد السياسي الذي برره ودافع عنه وبجله واستقطب «المثقفين» على اعتابه. وهو جاهز، الان. العودة الى الموقع نفسه… الى اي موقع يرضي شهوته الاولى في «الصعود» على سلم السلطة.
سلطة الثقافة هي اعظم السلطات طراً. انظر كيف تتطلع المجتمعات الى فقراء ومطاردين او مهددين، مهمشين لا يملكون اية سلطة سوى «الكلمة».
اذا قدست كلمتك… سوف يقدسها الناس. ولكنك لا تستطيع ان تقدمها لهم وهي «مستعملة». هل اقول ان شبه المثقف عندما تلفظه السلطة يصبح مثل بياع البالة «الملابس الستعملة». هل هذا يكفي؟
ربما. واكنه لا يشفي الغليل. فلن يتقدم الاردن، ابداً، اذا لم نشف من هذا المرض العضال من الانفصال بين الذات والخطاب.
الكلمات ليست عباءة للزينة او الوجاهة، يرتديها المرء حسب المكان والمناسبة. الكلمات تكوين اجتماعي -ثقافي-سياسي والتزام عضوي. انها لا تنفصل عن الفكر والذات والموقع وحين تنفصل تصبح لغواً ولا سجال في اللغو، لا فكر فيه، ولا تقدم.
لعن الله القائل «لكل مقام مقال».

Posted in Uncategorized.