ناهض حتر يكتب: روسيا في سوريا .. دلالات استراتيجية

(1)
في السجالات التي كنّا نجريها حول التحالف الروسي ـ السوري، توصلت، مبكرا، إلى الأطروحة التالية: لا تناقشوا المواقف الروسية من خلال حركة وتصريحات وزارة الخارجية، بل اصغوا، دائما، إلى ما يقوله الرئيس فلاديمير بوتين، المعبّر عن الاستراتيجية الروسية التي يتبناها الجيش الأحمر والمؤسسة الأمنية الروسية.

منذ بداية الحرب الأخيرة على روسيا، أدارت موسكو، بكفاءة ودقة، عملية معقدة لمنع انقلاب موازين القوى إلى حد يهدد دمشق، جديا؛ لكن الروس كانوا يطوّرون مقارباتهم، وفقا للأحداث الكبرى (ملف الكيماوي مثالا) كذلك، على أرضية صمود الدولة والجيش في سوريا، والتحولات السياسية لمصلحة الرئيس بشار الأسد.

أثناء كل تلك السجالات، كان هنالك، في الطرف المضاد، مشككون بالدور الروسي؛ لكن الأسوأ هم أولئك المشككون ممن هم محسوبون على ‘اليسار’ و’المقاومة’. بعض الذين كانوا يعتقدون (هل ما زالوا؟) أن الموقف الروسي تحدده المافيات أو الدبلوماسية، دفع كاتبا ليسخر من أطروحتي؛ فسأل: هل يقرأ الرئيس بوتين مقالات ناهض حتر؟

لم يقرأها بالطبع، لكنني أظن أنني قد تمكنت من قراءة الخط الاستراتيجي للرئيس الروسي.

كان انحياز الروس الكامل والشامل إلى مقاربة الرئيس بشار الأسد، مشكوكا به؛ وبطبيعة الحال، كان التدخل العسكري الروسي.. مستبعدا؛ وحين كتبت، العام 2013، أن سوريا وُضعَتْ تحت المظلة الاستراتيجية الروسية، قيل بأنها ‘ مبالغة’؛ وحين نشرت خطط المساعدة العسكرية الروسية لسوريا في 7 أيلول 2015، كان هناك من يشكّك، أقله في حجم هذه المساعدة، وجرأتها.

(2)

في الثلاثين من أيلول الماضي، حين بدأت العمليات الروسية ضد الإرهابيين في سوريا، وقع أعداء سوريا في صدمة؛ فباشروا، فورا، كوميديا البكاء على المدنيين والمعارضين ‘ المعتدلين’ … بدأ الهجوم الروسي كاسحا ماحقا جادا مصمَّما ، مع الجيش السوري، باتجاه الحسم العسكري.

لا شكوك حول هول القوة العسكرية الروسية؛ وإنما عويل الإرهابيين، الذي سُمع في أرجاء المنطقة، قطع الأنفاس، وشلّ القوى المعادية لسوريا، واستحضر سردية ‘ إنسانية’، دفاعا عن وحوش الإرهاب!

(3)

للتدخل العسكري الروسي في سوريا، موضوعيا، معاني استرتيجية كبرى، على عدة مستويات؛ (1) إطلاق دينامية حسم تعلن وجود نظام دولي متعدد الأقطاب. وسواءٌ أكان التدخل الروسي قد تم بتفاهم ما مع واشنطن أم قام ضد رغبتها؛ ففي الحالتين، هناك قطب دولي يستعيد مكانته العالمية؛ ليس هو الاتحاد السوفياتي السابق، بل هو، من الناحية الاستراتيجية والجيوسياسية ، قوة من نوع جديد، لعلها أكثر فعالية. ليس هنا مكان النقاش حول طبيعة هذه القوة، أيديولوجيا، لكن الجوهري هي أنها موجودة، وتتمدد، وتؤذن، تاليا، بخلق توازن دولي يسمح لمزيد من الدول بالاستقلال السياسي والذهاب نحو خيارات اقتصادية غير الخيار النيوليبرالي، ويفتح، أمام حركات التحرر الوطني، فرصا لم تكن موجودة منذ 1990؛ (2) في ما يتصل بسوريا تحديدا؛ فالسياسة الروسية منذ الفيتو الأول وحتى السوخوي الأولى، كان ، وما يزال، يتمحور حول منع الامبريالية الأمريكية والرجعية وتركيا العثمانية وإسرائيل، من شن حرب تقليدية، تسمح لحرب الإرهابيين بتحقيق نموذج ليبي جديد.

الآن، لا أحد يجادل بما قلناه، العام 2013، من أن سوريا تقع تحت المظلة الاستراتيجية الروسية؛ فلقد غدا هذا واقعا ملموسا لا يمكن التشكيك به، لكن ثمة مَن يشكك بمداه وطابعه. وهو تشكيك ينبع ، بالفعل، من نظرة رغبوية تضع الروس بين خيارين ؛ فإما تتبنى خيار إزالة الكيان الصهيوني وإما أنها بلا معنى! (3) قضية الصراع مع إسرائيل هي قضية فلسطينية وعربية، لا قضية روسية. روسيا تقاتل من أجل فرض معايير القانون الدولي؛ يعني ذلك، جوهريا، منع حروب اسقاط الأنظمة المستقلة، وتمكينها من اتباع السياسات المتوافقة مع مصالحها الحيوية؛ فالمهم، إذاً، هو السياق الاستراتيجي وليس التطابق في البرامج؛ (4) هنا، نسترجع النقاش العربي الساذج، في الحقبة السوفياتية، عما إذا كان السوفييت يدعمون أم لا إزالة إسرائيل؟ لم تكن هذه مشكلة السوفييت الواقعية، وإنما تمكين العرب من الدفاع عن أنفسهم؛ وقد فعلوا ذلك بأقصى ما يستطيعون؛ زوَّدوا مصر وسوريا والمقاومة الفلسطينية بالسلاح ، وبالدعم الاقتصادي والسياسي؛ السادات وياسر عرفات أفادا من هذا السلاح والدعم للقفز نحو الحض الأميركي الإسرائيلي؛ بينما أفاد منه الرئيس حافظ الأسد لبناء دولة مستقلة وجيش عقائدي حديث. هذا هو الجوهري: كيف تتصرف الدولة المعنية، بما يخلقه الحليف الاستراتيجي من سياقات ، وما يقدمه من دعم في إطار مصالحه واستراتيجيته بالذات، وليس مطالبة الحليف بالتخلي عن مصالحه واستراتيجيته أو تعديلها بالتطابق مع ما نريد! (5) هل يعدل الحضور العسكري الروسي من ميزان القوى لمصلحة سوريا في مواجهة إسرائيل؟ بالتأكيد؛ فإلى أي حدّ هذا يرتبط بالقدرات الواقعية لدى سوريا ومصالحها كدولة. وأول مصالح الدولة السورية تحرير الجولان وليس تحرير القدس. ويؤمن الغطاء الاستراتيجي الروسي، للقيادة السورية، سياقا ملائما تماما لنشوء مقاومة محلية في الجنوب السوري، تنسجم مع القانون الدولي الذي يعتبر أن الجولان أرض محتلة. في النهاية، ستكون إسرائيل مضطرة للاختيار بين الانتظار عقدا أو عقدين تحت ضغط مقاومة يومية أو التعلّم من تجربة جنوب لبنان، والانسحاب من طرف واحد من الجولان ومزارع شبعا، لقفل الجبهة الشمالية. هذه مهمة واقعية ثقيلة جدا ، خصوصا في ظروف إعادة البناء، مهمة لا بد من مناقشة كيفية القيام بها، تحت المظلة الروسية ومظلة القانون الدولي، (6) هل أدى الحضور العسكري الروسي ، ويؤدي، إلى تقليص النفوذ الإيراني في سوريا ـ وربما العراق ـ؟ بالطبع، ولكن لا يُقاس ذلك كإجراء عدائي روسي نحو إيران؛ فلا إيران ند للروس، ولا الروس يريدون الصراع مع الإيرانيين؛ بالعكس، كلا الطرفين يحتاج إلى الآخر، ولأنهما دولتان تناضلان من أجل مصالحهما، سوف تتعاونان في سياق تبادل المصالح؛ بطبيعة الحال، عندما تحضر القوة الدولية في الميدان، سوف تنضوي تحتها القوة الإقليمية. هذا واقعي تماما؛ فهل يخدم هذا مصالح الدولة السورية؟ بالتأكيد، لأن مصلحة دمشق تكمن في تنوّع الحلفاء والخيارات، مما يحافظ على استقلال قرارها السياسي. وهل يعني تفضيل العديد من السوريين، الحضور الروسي على الحضور الإيراني، عداء لإيران؟ كلا ؛ إنما يريد السوريون الخلاص، كما أن القسم العلماني من الشعب السوري، لا بد وأن يكون أكثر ارتياحا للروس الذين يريدون سوريا علمانية. وفي النهاية؛ فإن ما يعنيني، كمشرقي عربي، لا روسيا ولا إيران ولا الصين؛ وإنما توظيف كل الامكانات التي تتيحها مصالح الحلفاء، للحفاظ على استقلال سوريا وإعادة بنائها وتجهيز جيشها. بوصلتي هي سوريا، ولا أحرص إلا على مصالح سوريا. هذا طبيعي ، اعتيادي، بسيط ، ابتدائي بالنسبة لأي وطنيّ حقيقي؛ أما بالنسبة للكمبرادور السياسي والفكري الذي يتموضع في رؤى ومصالح الحلفاء، فمن المنتظر، أن يضطرب ويشكك. وما يعصم وعي المثقف السوري والمشرقي العربي، عن الانزلاق إلى موقع الأعداء، هو تجذّره القومي؛ فيكون الأمر، بالنسبة إليه، كالتالي: ما الذي ينفع سوريا وما الذي يضرها؟ ما هي مصالح سوريا وكيف تتحقق؟ (7) إن المساواة بين الآمال المعقودة على التدخل الروسي والتدخل الأميركي، تضمر المساواة بين الدولة الوطنية السورية وإعدائها الامبرياليين والرجعيين والإرهابيين. ليس التدخل الخارجي هو موضوع النقاش، بالنسبة للوطني السوري، بل مَن يتدخّل ، ولمصلحة مَن؟ وحين يكون التدخّل في مصلحة الدولة السورية، سنهلل له حتما، وهذا لا يشكّل، أبدا، ‘الوجه الآخر للتهليل الرجعي للتدخل الأميركي’ المعادي للدولة السورية؛ (8) في الواقع إن مساواة التدخل الحليف بالتدخل المعادي يعبر عن عداء للدولة السورية واصطفاف في خندق العدو. لا توجد الآن سوريا واحدة، بل سوريتان : سوريا الدولة وسوريا الفوضى والإرهاب، ولا يوجد الآن شعب سوري بوثائق الأحوال المدنية، بل بالموقف السياسي؛ إنها حرب غزاة رجعيين مركبة على حرب أهلية. وهناك سوريون يقاتلون في صفوف أو يؤيدون الغزاة والإرهابيين؛ هؤلاء، بوضوح، خونة للدولة والوطن والمجتمع في سوريا؛ (9) وأخيرا؛ هل يستطيع الروس، حسم المعركة في سوريا؟ كلا؛ فالذي سيحسمها هو الجيش العربي السوري، الجيش الصلب العنيد المكافح، والذي سمّاه الرئيس فلاديمير بوتين، ب’ الباسل’؛ لكن هذا الجيش سوف يستفيد من الدعم الروسي الاستراتيجي والعسكري والتقني. وهذه هي، بالذات، المقاربة الروسية التي تقض مضاجع الأعداء، وبعض ‘ الأصدقاء’!

(4)

في العام 2012، حررتُ عرضا استراتيجيا اطلع عليه مسؤولون أردنيون؛ أرجو أن يعودوا الآن إلى قراءته؛ في العرض ذاك، أكدت على أن روسيا بوتين اتخذت قرارا نهائيا بعدم السماح لقوى الإسلام السياسي بالانتصار أو حتى بالوجود في سوريا التي لا يتنازل الروس عن وحدتها وعلمانيتها وقوتها وكونها حليفا لموسكو. وخلال السنوات الثلاث اللاحقة، سعى الروس، بكل عزم ممكن، للتوصل إلى تكوين معارضة سورية مستقلة ذات صدقية؛ فلم يتمكن من ذلك؛ وبالمقابل، لم يرد الأميركيون ذلك؛ فما كان يهمهم هو استمرار تدمير سوريا، واستنزاف قدراتها، بينما دول وقوى اقليمية، لم تكن مهتمة سوى بإسقاط الرئيس الأسد، لا التوصل إلى حل واقعي.

انتهى هذا المسار؛ فلقد سيطر ‘ الجهاديون’، بكل ألوانهم، على ساحة ‘ المعارضة السورية’؛ ولم يعد هناك امكانية لحل سياسي، وإنما للخيار بين الأسد والقاعدة ـ داعش. وفي هذه اللحظة من التطورات الموضوعية، في اللحظة التي وصلت فيها التكتيكات الأميركية والأحقاد الإقليمية إلى طريق مسدود، وجدت موسكو أنها ملزمة بالتدخل العسكري للحسم. وهي تعلن أنها ستحسم في غضون أربعة أشهر.

(5)

هناك تشكيك بالقدرة، وحتى تذكير بأفغانستان. لكن لماذا لا يكون التذكير بالشيشان! بدأ الروس حربهم بعنف غير مسبوق، بجدية مرعبة ساحقة ماحقة، مستخدمين أقوى ما لديهم من سلاح وتقنيات. وليس هذا ما يميّزهم عن الأميركيين فقط، بل ما يمنحهم امكانية النصر السريع على الإرهاب، هو وجود قوات برية عالية الجهازية والقدرة والتجهيز على الأرض، الجيش السوري الذي أعيدت هيكلته وبناء امكاناته.

في أفغانستان، كان الأميركيون في حالة صعود والسوفييت في حالة هبوط؛ الآن الوضع معاكس؛ أكثر من ذلك وأهم، كان النظام اليساري في أفغانستان، ضعيفا ومعزولا ، بينما النظام السوري ما يزال قويا ويحظى بتأييد أغلبية السوريين لا تنقص عن 60 بالمئة من السوريين. ومع وجود تفاهم ما مع الإدارة الأميركية، يشل صقور واشنطن وحلفائهم في المنطقة، لن تستطيع قوة إقليمية، مهما علا شأنها، أن تعرقل العمليات الروسية ـ السورية المشتركة.

(6)

بالنسبة لروسيا بوتين؛ فإن مقاربتها نحو المنطقة تظل تعمل في الفضاء العربي؛ فما يرده بوتين هو سوريا موحدة وعلمانية، ومصر قوية ومزدهرة، تشكلان ضلعي المثلث مع عودة السعودية إلى لعب دور تقليدي متوازن.
هذا يعني إعادة إحياء النظام العربي، وتمكينه من احتواء الملفات الإقليمية، وملء الفراغ، والتوصل إلى تفاهم واقعي مع إيران. لا يخفى أن إعادة تأسيس نظام عربي من دولتين حليفتين ودولة صديقة، يحقق مصالح الروس في الشرق الأوسط كله، لا إزاء أميركا فقط، بل وإزاء تركيا وإيران أيضا. هل يضرنا ذلك؟ كلا.

(7)

نحمد الله أن بلدنا قد اجتاز كل هذه السنوات السود مما يسمى الربيع العربي ، بأقل الخسائر؛ ولكن ثمة ما ينبغي القيام به سريعا، وهو بذل جهد جدي للمصالحة مع دمشق، ومداواة الجروح. سوريا ستكون قبيل الانتخابات الأميركية المقبلة، في نهاية 2016، قد تعافت، وخرجت من الحرب، قوة إقليمية أساسية، وعندها سوف يتم فتح ملف الجولان ومزارع شبعا؛ فإذا انتهى الأمر بإنهاء حالة الحرب بين كل من سوريا ولبنان من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، سيكون الوضع على المسار الفلسطيني ـ الأردني، بالغ الخطورة على مصالح بلدنا الاستراتيجية؛ أمامنا الآن فرصة استيعاب هذا الخطر، وترتيب عودة اللاجئين السوريين والفلسطينيين ـ السوريين، وفتح الحدود، وتأمينها. وهو ما يتطلب تحسين وتوطيد العلاقات مع دمشق؛ دمشق هي الملاذ الممكن حين نقرأ التجربة الأردنية؛ فالشهيد وصفي التل رتب مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، في العام 1970، منع مجموعة صلاح جديد من مساندة تنظيمات الوطن البديل في حربها على الجيش الأردني، والملك الراحل، الحسين، تجاوز العزلة التي فرضها على الأردن، تحالف السادات والخليج، العام 1974، بالتلاحم مع سوريا الأسد، وحصل على الدعم السوري حين بات العراق مهددا جراء التراجع العراقي في الحرب مع إيران، العام 1985.

نحن الآن في وضع استراتيجي مشابه؛ صحيح أنه كان هناك ألم وعتب في دمشق، لكنه ليس أكثر من الألم والعتب لدى الرئيس الراحل حافظ الأسد، العام 1985، حينها تمكن الملك الراحل من تذليل العقبات، بشجاعة، واتخاذ موقف مستقل عن الولايات المتحدة والخليج، والذهاب نحو دمشق.

Posted in Uncategorized.