مرثاة لوطن الخيل والليل…

*
لقد حَمَلنا هذه الأرض على الأكتاف، فما أَنَّتْ لأنّ حِمْلَ الأحبابِ لطيفٌ، فهل تظلُّ لنا بقيةٌ من أرضٍ تحملُ أكتافَنا… أم نقولُ وداعاً لزمانِ الوطن؟
وهل يكون كلُّ هذا الوجد، وكلُّ هذا العَرَق والدّم، من أجل أن يقتنع «المستثمرون» ـــــ يهود الخارج ويهود الداخل ـــــ بأننا نصلحُ للاندحار والموت، وبأن أرضنا تصلح للشراء، وأنّ ما بنيناه بالكدّ، يصلح للسرقة العلنيّة، وأن ما حفرناه بالأظافر في مناجم الفوسفات والإسمنت وملّاحات البوتاس، يصلح للتداول في خزائن شيلوخ؟
نحن، نحن «المغرضون»! المحزونون! لا نسأل المغفرة… ولا نطلب فرحاً مستحيلاً حين يبكي البشر والحجر والشجر؛ لكننا، حسب، نسأل (عراراً): لماذا علّمتنا أن الأردنّ أحلى وأغلى من الجنّة؟
ألكي ننتهي إلى النار؟ حسناً إذاً، البلادُ مفتوحةٌ مُباحَة! فاهتبلوا الفرصةَ أيها السادة!
خذوا كلّ شيء: الأرض وما فيها وما عليها! انفجار الصبا والماء والرمّان في وادي السير! والغصون والعصافير والذكريات وكُتُب غالب هلسا، ودفاتر الأشعار النبطية، وأغاني عبده موسى؛ وخذوا الريحان من شبابيك السلط، بل خذوا الشبابيك والسلط و«مصرعَ النَفْس الأبيّة!».
حسناً إذاً. لا تتورّعوا عن شيء! لا تتركوا لنا شيئاً غير الدموع. فمن حقّنا أن نبكي! من حقّنا أن نودّع حلمنا الوطني بالنحيب!
من حقّنا أن نقبِّل قَدَمي الأرض، قبل أن ضياعها الأخير! من حقّنا أن نغازلَ عنبَ السلط قبل أن يسمّمه أصحاب القصور المبنية بالدولار. من حقنا أن نحبّ هذا الأردنّ الحلو قليلاً قبل أن يرتقي دَرَج المقصلة!
من حقنا ـــــ ونحن نخسرُ بلداً ـــــ أن نقول: إننا نخسر بلداً!
وتذكّروا: إنه بَلَدٌ هذا الذي نخسره، لا لعبة شطرنج! إنه بَلَدٌ هذا الذي يُغْتَصَب ويُنْهَب، وليس دكانَ خردوات!
إنه بَلَدٌ هذا الذي يفقد سيادته وكبرياءه وأرضه وماءه ومؤسساته… وليس فندقاً مشبوهاً على الطريق السياحي!
انه بَلَدٌ.. بَلَدٌ بكامله يرحل الآن.
ومن حقنا أن نبكي بلداً بكامِلِه! نحن، نحن «المغرضون»، أبناء الحراثين المقاتلين، نعرف أننا أبناء حرّاثين، وأن هذه الأرض التي خرجنا من صلبها، واستُشهدنا في حبّها، هي «وعدٌ» كوزموبوليتي! ونعرف أننا زائدون عن الحاجة! وأن المزاد مفتوحٌ على مصراعيه! شراءً وبيعاً ونهباً! ونهباً وبيعاً وشراءً! ونعرف أننا خارج اللعبة الجديدة؛ وأن زمن البناء انتهى، وجاء زمان «أعمال الخير»: عنزاً شامية، رجاءً، ملابس مستعملة، سرديناً، ـــــ ولو كان بلا صلاحية ــــ بقيَّةَ أحمر شفاه للمدام وصندلَ ـــــ ولو ممزقاً ـــــ للصغير! لسنا ـــــ معاذ الله ـــــ شحاذين! بل «شيوخ» مسجلون على قوائم الجمعيات الخيريّة!
كلّا! شكراً! لا نريد العنز الشامية، ولا نظرةَ الحنان، ولا لمسة التعاطف من النساء البورجوازيات اللواتي يعملن «الخير»، لأن أزواجهنَّ يعملون الشرّ! كلا! لا نريد سرديناً ولا صندلَ ــــــ ولو جديداً ـــــ فقط، نريد أن نبكي بلداً نخسره!
فقط، نريد أن نبكي… بلداً نخسره! والأردن! يليقُ به البكاء! أليس هذا موئل الشمس؟! أليس هذا موئل الأنباط، صنّاع الحضارة والبُناة المقاتلين؟! أليس هذا موئل الذين أنطقوا بلاد الشام، العربيةَ الفصحى؟!
أليس هذا موئل الغساسنة، كابراً عن كابر!؟ أليس هذا موئل العشائر التي حملت سيوفَها وخيولَها، بني أمية إلى آخر الأرض… فإنْ ضاقت بهم، «ألحقوا الدنيا ببستان هشام»؟
أليس هذا الأردن الذي تصدّى ـــــ بدماء صايل الشهوان ورفاقه ـــــ للمصفحات الإنكليزية؟ أليس هذا هو الأردنّ الذي على مهاده قاتل الفلاحون جيلاً وراء جيل، من أجل أن ينتصر القمح على الصحراء؟
أليس هذا هو الأردنّ الذي أحببناه حلماً بالغد الآتي بإرادة النصر والبناء؟ أليس هذا هو الأردنّ الذي في حجم بعض الورد ــــــ كما تغني فيروز ــــــ والقادرُ على الإيذاء ـــــ كما كان يقول أبو مصطفى؟
ألا يستحقُّ هذا الحبيب، البكاءَ بصوت عال! وهل هناك قوةٌ يمكنها أن تمنع مفجوعاً من العويل؟
استدراك
تجري في الأردن الآن عمليّة نهب تاريخيّة، تتيح لـ«المستثمرين» الأجانب والكمبرادور المحلّي الاستيلاء على مجمل الأراضي والعقارات والثروات والمناجم والمؤسّسات الوطنية.
وتجري في الأردن الآن عملية تفكيك بنى الدولة، وتحطيم دورها الاقتصادي ــــــ الاجتماعي؛ بينما يتمّ التخلّي نهائياً عن كل اتجاه تنموي، في إطار مشروع شامل لخصخصة الوطن، و«تأميم» المجتمع، وتكميم الأفواه.
وتجري في الأردن الآن عملية تقزيم لكل الهيئات والقيم، في إطار حملة شاملة لتحطيم المعنويات، ومقدرات الصمود الشعبي، والحصانة الوطنية!
وتجري في الأردن الآن عملية تثبيت وتسييس التوطين القائم والقادم! وتحويل الأردن إلى كانتون متصل «وحدوياً» بكانتونات أوسلو!
وتجري في الأردن الآن وبدون وازع من ضمير، مواصلة عملية الاستنزاف العدواني للموارد المائية، والمقدرات البيئية، والتحضير لانتصار الصحراء والتصحّر نهائياً على القمح والياسمين!
وتجري في الأردن الآن محاولات محمومة لإقناع الأردنيين بأن وطنهم ليس أكثر من مصادفة بائسة، وبأنهم ليسوا سادةَ بلدهم، بل بعض من بعض سكّانه، وأن أكثر ما يمكنهم أن يحلموا به أن يصطفّوا بالدور لبيع ما بقي لديهم من أرض… وكرامة، فيلهثون زمناً، قبل أن يصل بهم الحال، إلى «العنز الشامية»!
■ ■ ■
الأردنّ مستباحٌ/ والكيانُ الأردني يخرج من الكيان/والأردنيون… كتلةٌ سكانيةٌ زائدةٌ في زمان الخصخصة، ولا مكان لهم في البورصة أو في الأوكازيون!
وأرضنا تُباع، وتُسْتَنزَف وتُخَرَّب وتذوي!/ وذاكرتنا تُمْحَى، وعقولنا تُهان، وقلوبنا تُكْسَر!/ وأهلنا ــــــ الأُباة ــــــ يبيتون على الطوى والعطش والخوف والإذلال… وليسوا يملكون حتى الحقّ في البكاء!
ونحن…/ «إقليميون».. أو «مغرضون»!/ فاشهدْ يا قَلَمْ أننا لم نَنَمْ/ أننا لم نقفْ بين (لا) و(نَعَم)! (المقطع لأمل دنقل)
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.