بهدوء | الجدران السود التي تحبسنا

الكشف عن المرتشين من نظام بن علي، فضيحة مقصودة التوقيت لأسباب تونسية؛ غير أنها تظل فضيحة، تضعنا أمام الحقيقة التي نهرب منها للحفاظ على منظومة التكاذب القائمة بين الصحافيين والإعلاميين والكتّاب والمثقفين… الخ. وقد نشأ بين كل هؤلاء تواطؤ على تلافي النقاش في هذا الباب، وإغلاقه كلما انفتح. في الأردن، تابعتُ تجربة من ذلك التواطؤ: كشفت «ويكيليكس» عن صحافيين وناشطين مصنفين كـ «مصادر محمية»، أي مخبرين ومخبرات للسفارة الأميركية؛ كنت أظنّ، واهماً، أن ذلك الكشف سيقضي على المفضوحين والمفضوحات، معنوياً، لكن، لدهشتي، أن الفضيحة مرت من دون أن تؤثّر على المشهد الصحافيّ أو السياسيّ؛ لو كان الأمر يتصل بعلاقات غرامية، لكانت الألسن تمضغ الفضيحة حتى الآن!
التواطؤ ينسحب على القبول المرحِّب بالقافزين على الحبال السياسية؛ لن يحاسبك أحدٌ على ما قلتَه وصنعتَه أمس، فنحن أولاد اليوم. بالعكس، سنكسبُك! كنتَ نجمَ الخصم في الليلة الفائتة، يسرّنا أن تكون نجمَنا هذه الليلة! عجلة «المصالحة» الضمنية والتناسي والتهليل، تدور: إنها الآليات السلطوية نفسها (القائمة على تجميع الأوراق) تهيمن في كل الجبهات؛ لا مكان للمثقف المستقل، الناقد، إلا ما يجترحه بالأظافر، ثم في حضرة التأبين.
سآخذ مثالاً أردنياً آخر ــــ لكنه، بالطبع، عربيٌ بامتياز ــــ وألاحظ أن جمهور المعارضة يهلّل لرئيس وزراء أو وزير أو مسؤول سابق؛ يتقدم هؤلاء صفوف المعارضة أيضاً، بينما المناضلون المخضرمون، ممن أفنوا حيواتهم في الميدان والسجون والعزلة، يتخذون مواقع خلفية. أكثر من ذلك: تقوم هبّات متتالية ضد الفساد، لكن الفاسدين يُستَقبَلون بالأحضان، ويتصدرون المجالس! مشهد يدفع بالمعارض للبحث عن منصب وزاري؛ هنا، سيغدو أشرس المقاتلين في خندق السلطة. لقد تعلّم الدرس…
المئات من المثقفين «اليساريين» و«القوميين الديموقراطيين» العرب، «الكبار»، تعلّموا هم، أيضاً، درس الإثراء لدى دوائر التمويل الأجنبيّ والخليجي، ومنتجاتها من مجلات ومراكز دراسات وأبحاث لا تخجل، ولا يخجل أصحابها، وتستدرج، وتستهلك المزيد من الطاقات الثقافية، وتُفسد المزيد من الشباب الموهوبين.
المثقفيّة هي موقف أخلاقي شامل نابع من الوجدان الداخلي؛ فليست، إذاً، سلعة للبيع، ولا خدمة يؤجَر عليها صاحبها، لكن انهيار السلّم القيميّ العام، وتلاشي التمييز المعنوي بين الفاعلين، يقلّص، موضوعياً، عديد المثقفين الملتزمين، ويُقلّص فاعلية المثقفيّة. وربما يكون ذلك، بالذات، أسّ الأزمة الفكرية التي هي، في رأينا، منبع الأزمة العامة في العالم العربي. ولا أعرف ما إذا كانت هذه مفارقة أم مأساة، أن الثورات العربية لسنة 2011، حاصرت المثقفية العربية، ولم تفسح لها مكاناً في ميادين اكتظت بالفوضوية والضبابية واحتلال البلطجية، من كل الأطراف، آخر معاقل المثقفين الملتزمين؛ فبينما كانت الأنظمة تهمّش هؤلاء وتعتقلهم وتجوّعهم، كان لديهم سلاح التفوّق المعنويّ، سلاح الضمير الذي ينشدّ إليه قسم من الجمهور، لكن هذا الجمهور نفسه، حين امتلك قَدراً من السلطة، أبدى من الهمجية ما جعل المثقفيّة، تلوذ في الزوايا.
الأسوأ أن المثقفية العربية تتعرّض اليوم لضربات جديدة منهكة؛ فقبل 2011، كانت هناك مساحة ما لمَن لا يريد أن يكون سنياً أو شيعياً أو علوياً أو مسيحياً الخ. الآن، أنت محكومٌ عليك بالانتماء إلى طائفة أو مذهب… وبالنسبة للأكثرية السنية، الوضع أصعب، إذ أنه محكومٌ عليك بأن تتحزب إلى فرقة أو حزب أو «لواء» داخل المذهب؛ كيف يمكن أن تنجو المثقفية من هذا الحصار؟
هناك ردَّات فعل غاضبة، لا تمثّل الحل وإنما تكشف نفثات البركان الداخلي المتكوّن في زمن التكفير والقتل؛ في مصر «المتدينة»، نُفاجَأ بالإعلانات الشخصية عن الإلحاد في الفيس بوك، كفراً بالإخوان المسلمين. في السينما، تحمل الشجاعة الأدبية، المخرج نجدت أنزور، للبحث، في فيلمه «ملك الرمال»، عن منبع الهمجية العربية الحديثة، في اللقاء بين السيف السعودي والتلمود الوهابي، أما سعدي يوسف، العراقي الباقي من زمن الشعر الكبير، فيتخطى الزمن والممكن في حفريّة شعرية، لن يتسامح إزاءها المتعصبون. كل تلك، وسواها، ليست مجرد صرخات جريحة ترتدّ عن الجدران السود التي تحبسنا؛ إنها نذيرٌ أول بالثورة الثقافية التي تختمر.
الرشى، والفساد، والتلوّن، والأنانية، والتواطؤ، وغرائز الغاب الطائفية، والنزعات الهمجية… وكل تلك القيود التي تبهظ حياتنا، ويخضع لها معظم المثقفين، وتبدو كماكنة قَدَرية: هل يمكننا أن نكون الضدّ؟
في السياسة، هناك مهمة أولى هي الاتحاد في مواجهة الظاهرة التكفيرية الإرهابية المتعاظمة؛ وقد يسعفنا هذا الاتحاد في استرداد إنسانيتنا، في اكتشاف بهجة الحياة والتنوّع والسر المقدس للكائن البشري. لكن، هل يمكننا، بعد، أن ننتقل من غسيل العقول والأموال والمواقف إلى غسيل الأرواح؟ هذه المهمة فرديةٌ بامتياز، عودٌ شجاعٌ إلى الذات، ليس للاستكانة إليها، وإنما لتفجير فاعلية اجتماعية سياسية، تعددية وسجاليّة ومتحررة من أدران الحقد والتلوّن والتواطؤ، وقادرة على أن تمنحنا مهاداً آخر لحياة تستحقّ معاناة الوجود، حياة لا يسحقها هذا الاكتئاب العمومي.

Posted in Uncategorized.