عبد الله يشكل صورته قبل الصيف الأردني الساخن

تمتع الملك الاردني عبد الله، خلال الأشهر الثلاثة الاولى من حكمه، بما يمكن اعتباره فترة سماح التزمت القوى المتصارعة في البلاد اثناءها هدنة سياسية فرضتها الحسابات المعقدة، مثلما أملتها قوة التقاليد التي جنبت القصر الملكي الذي يعيش حالة الحداد على الملك حسين، الاحراجات الحادة في معارك سياسية حتمية.ولكن فترة الحداد الملكي انتهت، رسميا، يوم الجمعة الماضي، فرفرفت الاعلام من جديد، وعلقت صور الملك الشاب الذي سيستفيد، مرة اخرى، من تجميد الصراعات خلال فترة الافراح ايضا التي سترافق تتويجه ربما في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، في اليوم نفسه الذي يحتفل فيه الاردن بعيد الاستقلال.وقد استفاد الملك عبد الله جيدا من فترة السماح الاولى، فاتخذ مبادرات عربية جريئة، وتمكن من الحصول على دعم السعودية وسوريا للعهد الاردني الجديد، وحسن صورته بتحديده مسافة سياسية بدا انها تنأى به عن الاجواء الدافئة الملتبسة للعلاقات الاردنية الاسرائيلية في عهد والده الراحل.وعلى المستوى الداخلي اعطى الملك عبد الله اشارات على قدراته وقوته وعلى استعداده للتعامل مع صيغة ديموقراطية اكثر اتساعا، وبدأ مصالحة مع المعارضة، وخصوصا الحركة الاسلامية في ما بدا انه يريد تركيز الجهود على الشأن المحلي اكثر من الشأن الدولي والاقليمي، وكلف حكومة معينة من حيث تركيبتها وبرنامجها، بهذا الشأن، وبدد مخاوف عديدة حول احتمال اقدام العهد الجديد، على اقامة كونفدرالية قبل اوانها مع السلطة الفلسطينية، او المساهمة مباشرة في المسعى الاميركي لاسقاط النظام العراقي، ما قلص الطابع السياسي لبقايا التأييد الداخلي لولي العهد المعزول الامير حسن.وفيما يتصل بالموقف من »العملية السلمية« ابدى عبد الله مواقف توفيقية ترضي الفلسطينيين والسوريين (واللبنانيين) في آن معا، بل ان مسعاه في دمشق لعقد اجتماع ثلاثي (أردني فلسطيني سوري) في العاصمة الاردنية »لبحث تنسيق المواقف حيال المسيرة التفاوضية مع اسرائيل« قد يتكلل بالنجاح قريبا، كما علم من مصدر فلسطيني في عمان.واذا كانت جولة عبد الله العربية الاولى ناجحة، على الاقل من زاوية فتح الابواب والنوافذ امام المستقبل، فمن المنتظر ان تكون جولته الغربية التي تبدأ اليوم في المانيا، وتقوده، ايضا، الى بريطانيا وكندا والولايات المتحدة، فرصة ملائمة له لاقناع العواصم بشخصه، والوقوف على مواقفها، في الوقت الذي تجري فيه الانتخابات الاسرائيلية، ما يضع الملك الاردني الشاب، في اوائل الشهر المقبل، في صورة الخيارات المتاحة امامه.المستشار الالماني غيرهارد شرودر سيبلغ عبد الله شطب 50 مليون دولار من الديون الالمانية المترتبة على الاردن والبالغة 400 مليون دولار، وسيحصل الملك الاردني غدا، على دعم سياسي من رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، قبل ان يمر بأتاوا الى محطته الاهم في واشنطن، حيث سيلتقي المسؤولين الاميركيين، وخصوصا وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت، ما يمهد للقاء الذي يعقد عليه عبد الله آمالا واسعة، مع الرئيس الاميركي بيل كلينتون.ويريد عبد الله من كلينتون، حسبما اعلن، التدخل لدى الدول الصناعية السبع تخفيف اعباء ديونها على الاقتصاد الاردني، وخصوصا يأمل بإقناعه التدخل لدى اليابان، اكبر دائني الارن، لشطب قدر كبير من ديونها على عمان البالغة مليار وثمانماية مليون دولار.ولا يعرف ما اذا كان كلينتون، سيطلب في هذه المرحلة على الاقل، من عبد الله المساهمة في النشاط الاميركي ضد النظام العراقي او المساهمة في التمهيد للتصورات الاميركية لمفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني، ولكن ثمة مؤشرات على ان اجواء التفاهم بين الطرفين ستأخذ بالاعتبار وضع الملك عبد الله الداخلي، وعلاقاته العربية التي تنظر واشنطن اليها بعين الرضى، بينما هي تدرك ان عبد الله الذي يجيء الى واشنطن مدعوما من السعودية وسوريا، لم يقطع الصلة الاستراتيجية مع »المؤسسة الاسرائيلية«.وقد اختار بالفعل ان يتجاوز السياسيين الاسرائيليين، فيطمئن المؤسسة العسكرية الاسرائيلية الى تصميمه على »مواصلة التعاون الاستراتيجي الثنائي مع اسرائيل« حسبما جاء في الرسالة الملكية التي نقلها مدير الاستخبارات العسكرية الاردنية اللواء محمد العبادي الى رئيس هيئة الاركان الاسرائيلي الجنرال شاوول موفاز.ولم تذكر صحيفة »هآرتس« الاسرائيلية، التي اوردت النبأ، تفاصيل اخرى عن الزيارة السرية التي قام بها العبادي، الشهر الماضي، الى تل ابيب والتقى خلالها موفاز وعددا من كبار العسكريين الاسرائيليين، ولكن الزيارة نفسها ذات دلالة لا تخفى.تتشكل »صورة« العهد الاردني الجديد، اذن، وتتضح ملامحها اكثر فأكثر.وعندما تنتهي الاحتفالات، يبدأ مع مطلع حزيران، الصيف الاردني الساخن: فالمعارضة الاردنية، في مبادرة اولى لامتحان توجهات العهد الجديد، تحضر لأكبر احتجاج شعبي ضد العلاقات الاردنية الاسرائيلية، منذ التوقيع على معاهدة وادي عربة بين الدولتين العام 1994.وتريد المعارضة تنظيم اعتصام حاشد في مدينة اربد الاردنية في الشمال، امام مدينة الحسن الصناعية، »احتجاجا« على التغلغل الاسرائيلي في القطاع الصناعي الاردني«.ومن المنتظر ان تستجيب قوى متنوعة لهذا النشاط، ابتداء من انصار الاحزاب السياسية وأعضاء النقابات المهنية الى اوساط الاعمال المتضررة من الاستثمارات الصناعية الاسرائيلية في الاردن، بالاضافة الى جماهير الريف المعبأة، والتي تنتظر الفرصة للتعبير عن غضبها تجاه اوضاعها المعيشية الصعبة.وخلال الاعتصام الذي اعلن رئيس لجنة مقاومة التطبيع في النقابات المهنية الاردنية علي ابو السكر عنه، سيتم »الكشف عن حقائق مهمة حول الصناعات الاسرائيلية في الاردن، واستغلال العمال الاردنيين، وحجم التطبيع.ويبلغ حجم الاستثمارات، الصناعية وغير الصناعية، في الاردن، حوالى ثلاثماية مليون دولار، وهو رقم ذو دلالة اقتصادية بسيطة بالنسبة لحجم العمليات الاقتصادية في البلاد، ولكن دلالته السياسية مهمة بالفعل، خصوصا وان هذه الاستثمارات تتركز في المجال الصناعي الذي يتطلب عمالة كثيفة، ويستفيد المستثمرون الاسرائيليون من تسهيلات جمركية اميركية لمنتجات المصانع الاردنية الاسرائيلية المشتركة في مدن صناعية تشملها الرعاية الاميركية في الاردن (وأهمها »مدينة الحسن« في اربد) حيث الطاقة وأجور العمالة والنقل والخدمات، اقل مما هي في اسرائيل، بالاضافة الى الأجواء الأمنية المناسبة اكثر من اجواء الاراضي المحتلة »المضطربة«.وستكون حملة المعارضة ضد الاستثمارات الصناعية الاسرائيلية، امتحانا صعبا للعهد الاردني الجديد، فإذا جرى قمع هذه الحملة، فإن الصورة التي كونها العهد عن نفسه بوصفه صاحب سياسات ليبرالية وعروبية ستتهاوى، واذا تم السماح بهذا النشاط، او تجاهله، فستكون هذه إشارة سلبية للاستثمارات الاسرائيلية التي بذل المسؤولون الاردنيون جهودا حثيثة لاستقدامها، وتعتبرها الولايات المتحدة، جزءا من دعمها للاقتصاد الاردني، ربما تستند اليه اشكال الدعم الاخرى. الموعد الثاني للتسخين السياسي خلال الصيف يأتي في الرابع عشر من تموز المقبل، حين يتوجه الاردنيون الى صناديق الاقتراع لانتخاب المجالس البلدية، في معركة اصبح طابعها منذ اليوم سياسيا، خصوصا مع المشاركة الكثيفة للحركة الاسلامية وقوى المعارضة الاخرى فيها.وستكون هذه المعركة امتحانا آخر للعهد، فمدى نزاهتها سيؤشر الى حقيقة الوعود الديموقراطية المعطاة، بينما لا يمكن تجاهل الدلالات السياسية لنتائجها، لا سيما وان توقعات المصادر المختلفة، تشير الى امكانية تحقيق الاسلاميين، والمعارضين الآخرين بدرجة اقل، فوزا واضحا فيها سيطرح للبحث شرعية المجلس النيابي الحالي الذي قاطعت الحركة الاسلامية ومعظم احزاب المعارضة، الانتخابات العامة التي جاءت به العام 1997.وربما يجري »التفاهم« ضمنا او علنا على عدم اجراء انتخابات نيابية مبكرة تتواصل المطالبة بها، في اوساط المعارضة وفي بعض اوساط الحكم معا، ولكن القانون الانتخابي الساري المفعول منذ العام 1993، والذي يقوم على آلية »الصوت الواحد للناخب الواحد« التي تعوق فوز القوائم، وبالتالي فوز الاحزاب بمقاعد نيابية تعكس حجمها الفعلي، سيكون مطروحا لنقاش ساخن، لا سيما وان دعوة الملك عبد الله الحركة الاسلامية الى وقف مقاطعتها للحياة السياسية، استندت الى وعد، اكده رئيس الوزراء عبد الرؤوف الروابدة، بتغيير القانون الانتخابي توافقيا، الامر الذي سيفتح بدوره ابوابا عديدة للصراع بين القوى الاجتماعية السياسية على شكل ومحتوى المجلس النيابي القادم. موعد الاردنيين الثالث في الصيف الساخن المقبل، هو مع العطش، فإسرائيل لن تزود الاردن حصته المائية قبل الشتاء (حسبما سوى الطرفين الخلاف) بينما كمية المياه التي وعد السوريون بضخها الى الاردن (وهي ثمانية ملايين متر مكعب) لها اهمية رمزية سياسيا، ولكن مساهمتها الفعلية في حل مشكلة مياه الشرب خلال موسم الازمة بين حزيران وايلول، هي مساهمة محدودة. ويضغط تأمين مياه الشرب خلال الصيف على المداخيل المتواضعة لأغلبية الاردنيين المضطرين الى تخصيص حوالى مئة دولار في المتوسط للحصول على المياه في الشهر للعائلة الواحدة، ترتفع الى حوالى مايتي دولار شهريا لعائلات الطبقة الوسطى، في اجواء مأزومة تتطلب هدر الكثير من الوقت والجهود للحصول على مياه مرتفعة الثمن.وتظهر ازمة المياه خلال الصيف حجم الفوارق الطبقية في البلاد، وتكشف عمق الازمة الاقتصادية مع بطالة فعلية تتجاوز ال25 في المئة، وأخرى مقنعة تتجاوز ال40 في المئة، بينما تعترف المصادر الحكومية نفسها بأن نسبة الفقر المطلق تتجاوز ال50 في المئة، بينما يشعر اغلبية الاردنيين بأن طريق المستقبل مسدود بالرغم من الامال التي يعلقها المسؤولون الاردنيون على الدعم العربي والدولي.ويلاحظ المعلق الاقتصادي المعروف، فهد الفانك، في صحيفة »الرأي« الاردنية ان الوعود العربية والدولية لدعم الاقتصاد الاردني ما تزال سياسية بالدرجة الاولى، ولم تتم ترجمتها الى معطيات، وهو يشكك، اصلا، بأن تتعدى تلك الوعود طابعها السياسي.ويقرر الفانك والمراقبون الاردنيون الآخرون ان عودة الاقتصاد الاردني الى النمو بعد فترة الانكماش التي يعيشها منذ العام 1996، ترتبط بفتح الاسواق العراقية والفلسطينية امام صادرات السلع والخدمات الاردنية، ما يسمح بتشغيل الاستثمارات القائمة، واغراء الاستثمارات الجديدة التي لا تعوقها »البيئة الاستثمارية«، ولكن فقدان الاسواق، بينما يركز البرنامج الاقتصادي الرسمي على تحسين البيئة الاستثمارية عن طريق تطبيق سريع وحاسم لبرنامج صندوق النقد الدولي في غضون سنتين، تجري خلالهما خصخصة القطاع العام، وتقليص الادارة، وتحرير الاقتصاد لاستقدام الاستثمارات الاجنبية، بينما يأمل الملك عبد الله الحصول من مجموعة الدول الصناعية على شطب بعض الديون الأردنية، وهو ما قد حصل جزئيا، ولكن ليس بالنسبة التي يطلبها وهي 50 في المئة.ومهما تكن نسبة الخصم التي ستحصل عليها عمان للتخلص من عبء المديونية الخارجية (البالغة حوالى سبعة مليارات دولار، اي ما يساوي الناتج الاجمالي المحلي بالكامل) او عبء خدمتها (حوالى 800 مليون دولار سنويا اي 27 في المئة من الموازنة الاردنية) فإن ذلك قد يعزز قدرة الحكومة على الانفاق الاجتماعي، ولكنه يعزز قدرة الاقتصاد الذي يحتاج، اولا، الى اسواق تستوعب منتجاته، وثانيا الى استثمارات جديدة، بينما اعلن رسميا، في عمان عن تراجع الاستثمارات الاجنبية الصافية في سوق عمان المالية خلال الاشهر الاربعة الاولى من العام الحالي الى 20 مليون دولار من 30 مليون دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي. ومن غير المنتظر، بالطبع، ان يستمر الصمت في البلاد عن مناقشة تفاعلات الازمات الاقتصادية والسياسية خلال الصيف الساخن، ما سيطرح فورا تنفيذ الوعد الحكومي بإلغاء قانون المطبوعات الساري منذ العام الماضي، الذي يمنع تحت ظل عقوبات قاسية جدا، اجراء مناقشات علنية حول القضايا الأساسية.ومن المتوقع ان يزداد الضغط من اجل تنفيذ الوعد الحكومي والملكي بإطلاق الحريات الصحافية وهو امتحان للعهد، يولد امتحانا آخر حول قدرته على التعامل مع صحافة حرة تريد ان تناقش كل شيء بعد صمت اضطراري لم يعد ممكنا.

Posted in Uncategorized.