شتاء اخر

قصة ناهض حتّر على قطعة (الخيش)، امام الباب، اخذت ادعك قدمي، لاتخلص من الطين العالق بحذائي… فعلت هذا، رغم انه يبقيني فترة اخرى، نهبا للمطر والبرد، تنفيذا لوصية امي -التي تتعب في شغل البيت كثيرا ولا تطلب سوى ان نحافظ قليلا على النظافة -وعندما اصبح حذائي نظيفا، دفعت الباب متصورا فرحة امي، بتنفيذي وصيتها… ولكن الباب لم ينفتح … قرعت وقرعت… وظل الباب موصدا-أين هم؟ اين ذهبوا؟
على (قرقعتي) تنبهت الجارة، بان راسها من الباب المجاور-راسها فقط –ثم مدت يدها نحوي، ورمت الي بالمفتاح:
– (اجلس في البيت وانتظر… امك في المستشفى وابوك معها… لا تخف! شقيقاتك سيأتين بعد قليل!)
فتحت الباب ودخلت، فاستقبلتني العتمة والبرودة، وشعرت بالخوف، لكنني استجمعت رباطة جأش… وضعت حقيبتي جانبا، وخلعت معطفي المبتل وحذائي، وبلا ارادة، كورت نفسي على السرير، مستجلبا الدفء، فكرت باشعال المدفأة لكنني تذكرت وصية اخرى لامي، فكففت، وسحبت -بدلا من ذلك -بطانية فوقي، لملمت اطرافها، وبدأت ادفأ… وافكر في امي: (في المستشفى… لماذا؟ هل… وصعقت…ابدا…امي لا تموت…) واخذت اصلي… بحرارة: (ابانا الذي …)، هي الصلاة الوحيدة التي احفظها، ولكنها تفيد… يقولون انها افضل الصلوات… اتممت صلاتي، ووعدت الله، ان اكف عن كل افعالي التي تغضبه، لكي يحافظ عليها… امي … وبكيت… كنت خائفا وجائعا ووحيدا، والشتاء -الشتاء الحيوان!- بدا لي هذه المرة، كما تخيلته دائما ولكن بشكل مجسد: معتما، كريها باردا، ضيقا… ضيقا – يضغط على الصدر، ومليئا بالشياطين والامراض والمصائب… وفكرت: (انا لا احبه… لا احبه… هذا الفصل اللعين… فصل نقضيه بلا لعب ولا دوارة، بل في البيت حيث نغلق النوافذ، وتوقد المدفأة – ذات السناج – وفي المدرسة – حيث تبرد يديك… تبردان كثيرا. ويسيل المخاط من انفك، فتخجل من المعلمة، وتضطر لارتداء معطف ثقيل، ذي بطانة واطراف مهترئة… معطف من (البالة) يخجلك هو الاخر… مثل المخاط!!… لماذا هو الشتاء حيوان هكذا؟! الصيف اجمل… احب الصيف، حيث لا مدرسة ولا مدفأة ولا معطف ولا مخاط!! أحب الصيف… احبه… لكنه بعيد الان… وشقيقاتي… لماذا تأخرن… أنا جائع… وبردان… بردان… وسرحت، تذكرت نفسي على السرير نفسه، مصابا بالحصبة، كانت تمطر… تمطر وابي بلا تحمل… وبيتنا مرهون للدائنين… وامي تلفعني بملاءات عديدة وتغمس (فوطة) بماء بارد تضعها على جبيني وتبكي… ربما كانت تبكي علي… او من حديث ابي… لم اكن افهم شيئا… لكنني رأيت في وجهها الفاجعة… وسمعت شيئا عن البيت… الرهن… الرحيل… وبكيت انا ايضا… تعللت بقطرات الماء التي تنزف من الفوطة وبكيت… وتخيلت الامر… كما في قصص المعلمة… نحن: الاب والام والشقيقات وانا، بلا بيت، يغسلنا المطر وينهنهنا البرد… وحيدين في شارع معتم… وبدأت اغفو، لكن شقيقتي جاءتا وملأتا البيت ضجيجا، ضمتني احداهن، وقبلتني؛ (زمان جيت؟) لم ارد بل سألتها سارحا: اين امي لماذا تأخرتما؟ لماذا هي في المستشفى… لن نرحل من بيتنا؟ لن يأخذوه!! امي لن تموت… هه… ليست من الامهات اللواتي يمتن!! انا جائع!! خذوني اليها… امي اريد ان اراها!!
** ** **
كان الـمستشفى راقيا وصغير-ربما وضعوها فيه، خوفا على حياتهاـ مستشفى خاص يملكه طبيب وزوجته يشرفان عليه، وينامان فيه-بيتهما ومستشفاهما -وواجهته من زجاج-بابان كبيران من زجاج-لا ينفذ منهما الهواء والبرد، وترى من خلالهما المطر (منظر جميل حقا!) ويحيط بالمستشفى حديقة وممرات نظيفة الا من قطرات الماء، وعلى البوابة سجادة طويلة لتنظيف الاحذية، وفي الداخل الارض مفروشة بالسجاد الوثير، وثمة درج يصعد الى الاعلى عليه صعدنا انا وشقيقاتي لنرى امي-بينما اخذت ثيابنا تجف، وعظامنا تطرد الثلج من داخلها… ثمة تدفئة مركزية، وهدوء واضاءة مريحة!! امي بهجة الصيف ومهجع الشتاء، كانت تبتسم… مريضة وتبتسم قبلتني ولم تحدثني، لم تكن تستطيع، واردت ان احدثها، لكن الممرضة جاءت وطلبت الي ان اخرج. خرجت-لم افهم لماذا يجب علي ان اخرج -فعدت حزينا ووحيدا… ولكنني دفان… ندمت لأنني لم اقلع المعطف في الغرفة… هذا المعطف يقيدني ويخجلني هبطت الدرج، درجة، درجة… ثمة ردحة فسيحة، وامامها البابان الزجاجيان، يسبح عليهما المطر ويسبح… منظر بهيج! فرحت وفكرت في بهجة الوضع كله! وثمة مكتبة جميلة ايضا وكنبات، وفي الوسط ثمة كرسي هزاز، يجلس عليه رجل، ذو وجه حليق، ابيض، ويدين ناعمتين، يرتدي بنطالا صوفيا وقميصا وصدارة … يدخن باناة ويتطلع الى المطر عبر الزجاج… وقفت في مكاني في منتصف الدرج، اتطلع اليه والى المطر بالتناوب… الجو هـادئ سكون ودفء. ومطر تراه ولا يبللك… انتشيت ونسيت نفسي، سرحت… كان التنفس مريحا… والصالة واسعة، ودفء بلا سناج… وانفي لا يسيل… مرت ممرضة مسرعة والقت السلام على الرجل… (انه الدكتور اذا!… وهذا بيته… مستشفاه!! لو كان ابي دكتور!؟).
فجأة، تمزق الهدوء. سيارة امريكية طويلة، وقفت قرب الباب الزجاجي… بعد قليل دفع الباب طفل بعمري-رأيته يعد عبر الزجاج ودخل واثقا فرحا… كان وجهه احمر… يرتدي معطفا جلديا انيقا-بطاقية فرو تلفع راسه-وبنطالا بنيا وبوتا يغمره حتى الركبة-بثنية من الفرو ايضا -تابعته وهو يعدو باتجاه الدكتور: باب… بابا… وكان الدكتور قد نهض، اخذه بين يديه، رفعه عاليا وقبله… ثم مضيا من باب جانبي…
لحظة ذاك، كان صوت واحدة من شقيقاتي يناديني (تعال!!) ولم ارد، كنت مأخوذا!! جاءت شقيقتي، وهزت كتفي بلطف: (تعال… الممرضة ذهبت!!) تطلعت في عينيها، ولم انبس بكلمة:
– كان شتاء مختلفا… شتاء لا نعرفه … شتاء اخر!

Posted in Uncategorized.