سيناريوهات!!!

ناهض حتّر
ثمة سيناريوهات عديدة عديدة لـ «المنطقة»! وكأنها– المنطقة– خلاء تاريخي!؟
ثمة سيناريوهات– مفصلة – يتم تداولها بين الخاصة، وأخرى يهجس بها العامة، وأخرى تنسج الصحافة العربية منها وعليها… للإثارة!
وثمة هنالك “الفهمانون”… في “التفكيك” و”التركيب” وما بينهما!
وللسيناريوهات أصل منبعه “عصف الأفكار” في الإدارة الأميركية اليمينية، وما حولها من “مفكرين” و”استراتيجيين” وصحافيين وسواهم من أوساط فقدت صلتها بالتاريخ… والجغرافيا العالمية. فالعالم عندها صفحة بيضاء… لكتابة سيناريو: عصف أفكار لخيال خصب لكنه مريض، وأحمق معاً. خرج من “كارثة” 11 أيلول 2001 إلى “الانتصار” المذهل جراء العدوان الذي شنته أقوى دولة في التاريخ على أضعف وأفقر دولة في العالم (أفغانستان) وقاتلت – وما تزال– تقاتل منظمات معزولة، متخلفة، فكراً وإدارة وعدة، بحثاً عن زعيم “الإرهاب” الذي ما يزال مجهول محل الإقامة!
في سيناريوهات 11 أيلول، جرى الخيال الخصب المريض الى تأليف فيلم رعب من بطولة القاذفات الأميركية العملاقة التي تقصف مكة المكرمة، بغداد، دمشق… بالقنابل النووية التكتيكية!
وفي سيناريوهات أخرى، لاحقة، و”أكثر جدية”… يصل الخيال الأميركي إلى إعادة تأليف “المنطقة” بالكامل: (1) تقسيم العراق (2) تقسيم السعودية (3) إنشاء دولة جديدة من الحجاز والأردن والضفة الغربية (4) وعلى الهامش، تخصيص ست ساعات لإسقاط النظام السوري وإقامة نظام “ديمقراطي” مؤسس على حرية السوق… وبالطبع التنازل عن الجولان المحتل!
والسيناريوهات الأكثر تداولاً هي:
– تغيير النظام العراقي… بالقوة، أي بالغزو الأميركي المسلح.
– الكونفدرالية الأردنية–الفلسطينية – الوطن البديل، تهجير الفلسطينيين إلى الأردن.
– دولة فلسطينية في غزة… وإعادة ضم الضفة الغربية– أمنياً وإدارياً إلى الأردن.
– الحرب الشاملة ضد سورية انطلاقاً من لبنان؛ ومباشرة.
***
عن “السيناريوهات” أريد أن أوضح ما يلي:
(1) أن للقوة– مهما عظمت– حدوداً تحكمها. وهذه الحدود هي حدود الواقع التاريخي الاجتماعي، مصالح التكوينات الاجتماعية، وإرادة الدفاع.
لقد حطم الأميركيون بالقصف الجوي، نظام “طالبان”– وهو، بالأصل، معزول وضعيف ومصطنع من قبل المخابرات الأميركية والباكستانية– ولكن ماذا تستطيع القاذفات العملاقة والقوات البريّة المجوقلة غير ارتكاب المجازر– حد الإبادة– ضد التكوينات الاجتماعية المحلية، ومصالحها، وإرادتها؟! الإبادة! بالمعنى الحرفي أو استمرار الحرب الأفغانية إلى مالا نهاية، لأن التناقضات الداخلية – وهي من مستويات إثنية وقبلية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافيّة عديدة– تجعل من أفغانستان، مستنقعاً لأعظم قوّة عرفها البشر.
(2) إن للقوة– مهما عظمت– مدى تقف عنده في المكان والزمان. وبالمعنى المحدَّد العياني-فالولايات المتحدة الأميركية تستطيع الآن أن تشن، في الوقت نفسه، أربعة حروب، لأهداف استراتيجية مختلفة. ونستطيع أن نضيف إليها حرباً خامسة تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين أو ضد سورية ولبنان.
(3) ليس مهماً ما تنجزه القوة العسكرية… من انتصارات عسكرية، ولكن من حصاد سياسي، وترتيبات “دائمة”. وحتى عندما تنجح القوة العسكرية في اصطناع مثل تلك “الترتيبات”… فهذه الأخيرة لها استحقاقاتها وتفاعلاتها الذاتية، وقدرتها على توليد التناقضات. مثلاً: هل هناك أيّ ضمانة للحيلولة دون سلسلة من التفاعلات السياسية لعراق ما بعد صدام، تنتهي بالتأكيد على الاتجاهات القومية والاستقلالية في ذلك البلد؟! إذا استنطقنا التاريخ الحديث للعراق ان الخطوط الرئيسية لسياساته الاستقلالية لها جذور راسخة في العراق الملكي الموالي للغرب! وحتى الكويت؟! كانت مطلباً وحلماً لملوك العراق وساسته.
وفي العراق شيعة وسنة وأكراد! غير أنه من العبث أن يتجاهل واضعو السيناريوهات، وجود شخصية عراقية جامعة، سوف يحييها ويؤكد عليها العدوان الخارجي… وكذلك “الديمقراطية” الموعودة!!
ثم… هل تسمح تركيا وإيران… بدولة كردية؟! وهل يمكن أن يكون العراق الشيعي– مع احترامنا– غير مستعمرة إيرانية؟! ومن يريد ذلك إقليمياً ودولياً؟!
أعني أن الواقع… في الميدان… أشدّ تعقيداً مما يتخيله واضعو السيناريوهات.
(4) الدفاع– في المحصلة الأخيرة– هو “إرادة الدفاع”. فالبشر ليسوا كائنات بيولوجية والشعوب ليست مجرد قطعان ماشية!
لقد استهدف السيناريو الشاروني من مجازر “الجدار الواقي” منذ مطلع نيسان الماضي، بث الهلع في نفوس الفلسطينيين وإجبارهم على هجرة وطنهم. وقد فشل هذا السيناريو الشاروني أمام أبسط سلاح ممكن: إرادة البقاء على الأرض… تلك الإرادة النابعة من الآلام المريرة التي عرفها المهجرون الفلسطينيون في الحروب السابقة.
ولقد استطاع السفاح شارون– بوصفه سفاحاً يمتلك قوة عسكرية أسطورية إزاء أعدائه العزل – أن يدمر مخيم جنين على رأس أبنائه… وقد طمس، بالفعل، الشهداء، أمواتاً وأحياء، تحت الأنقاض… ولكن: ظلت الحقيقة الأساسية أن مخيم جنين قاتل حتى الطلقة الأخيرة. وهو ما شحن الروح الوطنية الفلسطينية بطاقات جديدة منظورة وغير منظورة للمستقبل… حتى أن يوري أفنيري يقول “في جنين ولدت الدولة الفلسطينية.”
***
الدولة الفلسطينية!
بالرغم من دبابات شارون والأباتشي، وعجز النظام العربي، ونزعة الاستسلام المزمنة لدى القيادة الفلسطينية، أصبحت الدولة الفلسطينية… مشروعاً دولياً. ولا أعني، هنا، أنها أصبحت موضوع قرار دولي… بل أعني أنها أصبحت-بوصفها هدفاً وطنياً-محل إجماع في الفكر السياسي والممارسة السياسية على نطاق عالمي. وسوف يتطلب إنشاؤها زمناً وتضحيات سوى أنها قائمة بالفعل منذ الآن في الوجدان الفلسطيني، والوجدان العربي، والوجدان الأممي. وهذه الحقيقة الوجدانية، سوف تفرض نفسها، في النهاية، على التحالف الأميركي_ الاسرائيلي.
و”غزة”… و”الضفة”… لن تنفصلا كما حدث في حرب الـ 1948 فهما-معاً-بالكاد يشكلان أرضاً كافية للمشروع الوطني الفلسطيني… وكل منهما بدون الأخرى … صفر سياسي.
لقد نشأت وطنية فلسطينية جديدة في الأراضي المحتلة، تدعمها شبكات سياسية وتنظيمية واقتصادية واجتماعية وثقافية خلال 35 سنة من الاحتلال وثماني سنوات من “السلطة الوطنية”.
***
…. والكونفدرالية؟!
التاريخ لا يعيد نفسه… إلّا على شكل “ملهاة” لا أحد يريدها. وهنا، قد يكون استذكار “المأساة” مفيداً.
نشأت “وحدة الضفتين”، بعيد حرب الـ 1948. كان الجيش الأردني-إلى جانب الجيش العراقي-هو الذي استبقاها… وكان على أرضها… وبينما كانت الوطنيتان، الأردنية والفلسطينية، لم تتبلورا بعد، فإن قسماً كبيراً من “وجهاء” الضفة، ونخبتها… وجد، في المملكة الأردنية الهاشمية، إطاراً ملائماً لترميم ذاته، والمشاركة، وإعادة تأسيس حضوره الاجتماعي ومصالحه ومستقبله؛ سواء أفي الحكم أم في المعارضة المفتوحة الآمال-وقتها-على آفاق العملية السياسية، بشقيها البرلماني والانقلابي.
وعلى الجانب الأردني، كانت النخبة البيروقراطية -المدنية والعسكرية-تكتشف، في الضفة الغربية، مجالاً لتوسيع صفوفها وزيادة مكتسباتها بينما وجد المعارضون الأردنيون في نظرائهم الفلسطينيين، الأكثر تدريباً والأخصب تجربة، حلفاء في تأسيس أحزاب وحركات قوية… وكانت هي أيضاً طامحة… وترنو إلى المستقبل بآمال الحركات السياسية الناهضة.
ولن نسترسل أكثر… ولكننا نشير حسب إلى اتساع السوق بالوحدة، وبالنسبة للضفتين -التجارة الداخلية-المساعدات-الازدهار النسبي اعتباراً من أواخر الخمسينات-التعليم والوظائف…إلخ.
***
كل ذلك، شكّل مناخ الوحدة، ودفع بمعظم الأردنيين والفلسطينيين إلى التعامل مع “المملكة” باعتبارها واقعاً سياسياً دائماً، قبل أن تنبثق الوطنية الفلسطينية من سباتها وشتاتها في النصف الأول من الستينات. وحين جاء الاحتلال، العام 1967، كانت عرى الوحدة الداخلية، قد تقطعت أو تكاد.
وبينما كانت جهود عمان لاستعادة الضفة الغربية، سلمياً… تفشل وهي تدور في دائرة مغلقة من المباحثات والمبادرات واللقاءات، كانت حركة “فتح” وفصائل المنظمة تؤسس حضورها السياسي، وتنشئ قواعدها الراسخة في الضفة الغربية وقطاع غزة، تؤسس، تحت راية الشعارات الكفاحية، وطنية فلسطينية صلبة متمحورة على ذاتها، ومصممة على إنجاز مشروعها بحيث أنه لم يعد، بالإمكان، “إدماجها…”
وعلى الجانب الأردني، تطورت الوطنية الأردنية منذ العام 1968، وتحديداً منذ معركة الكرامة، من كونها أداة من أدوات الحكم إلى صيرورتها-وخصوصاً منذ العام 1989-وعياً مستقلاً يتابع هو الآخر إمكانات إنجاز المشروع الوطني الخاص.
وعلى هذه الخلفية لن يقبل الفلسطينيون أو الأردنيون… بالمشروع الكونفدرالي إلا في إطار مشروع قومي يشترط اتضاح صورة الدولتين نهائياً، وتبلورهما نهائياً
 في فلسطين: الانسحاب الإسرائيلي، العسكري والمدني، بالكامل إلى حدود 1967 بما في ذلك القدس الشرقية، والاعتراف غير الملتبس بالسيادة الفلسطينية الكاملة على الأرض والحدود والاقتصاد… وتفكيك العلاقات الاقتصادية التبعية بين الضفة والقطاع من جهة وإسرائيل من جهة أخرى.
 وفي الأردن: التوضيح النهائي للمواطنة والهوية والشكل السياسي للعلاقات الداخلية على أكثر من صعيد.
وبغير ذلك، فالكونفدرالية هي مشروع إسرائيلي صرف يهدف إلى
– توريط عمان بمهمات أمنية في الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال.
– توفير إطار ملائم للتهجير الطوعي من الأراضي المحتلة باتجاه الأردن.
– توفير إطار ملائم لتهجير المشروع الوطني الفلسطيني من غرب النهر إلى شرقه.
وكل ذلك، يتعارض مع المصالح الفلسطينية والأردنية. وسيقاومه الشعبان اللذان يمكن قمع مشروعيهما الوطنيين، ولكن من المستحيل إجبارهما على المشاركة في مشروع سياسي يرفضانه ولا يعبر عن مصالحهما.
***
وأما السيناريو الذي على النار… فهو الذي يحمله شارون إلى الحليف الأميركي، ويتمحور على ثلاث نقاط:
1. إعادة ترميم الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتوحيدها في جهاز واحد برئاسة العقيد محمد دحلان.
2. إعادة ترميم السلطة الفلسطينية، ولكن بدون الرئيس ياسر عرفات.
3. عقد مؤتمر للسلام يكفل تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية بالرغم من استمرار احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية.
والنقطة الأولى، يمكن تنفيذها، واقعياً، وفرضها على الرئيس عرفات… ولكن إقصاء الرئيس عرفات نفسه… هل هو واقعي حقاً؟! وهل تجرؤ الأنظمة العربية على التطبيع مع المحتلين… خصوصاً بعد كل هذه المجازر-هل هذا السيناريو واقعي حقاً؟!

Posted in Uncategorized.