تيسير سبول، الفعل واللا جدوى

(قراءة في ديوان أحزان صحراوية)

ناهض حتّر

١مدخل خاص:

صعبة هي مهمة الناقد الادبي، صعبة ومجهدة، فللعمل الادبي اشعاعات، غير تلك الخطوط العامة التي تحدد ببساطةاشعاعات يتلمسها المرء، فاذا أراد أن ينقلها كلمات الى الورق برزت أمامه صعوبة التعبير

هذه صعوبة تتبدى واضحة في التعامل مع الاعمال الادبية، التي لا يشي ظاهرها القريب، بسماتها الايجابية، وجوانبها الجمالية وارتباطها العميق مع قضايا الحياة.

أعمال ليست واقعية، أو ربما تكون ضد الواقعية، ولكنها أعمال تعكس الواقع، بشكل معقد، متخذة منه موقفا، أرضيته سليمة، ايجابية، وأسلوبه مثالي، سلبيوتبقى مهمة الناقد الواقعي، تحتم عليه، الغوص عميقا، في هذه الاعمال، واستكشاف جذور تلك الاشعاعات التي يتلمسها المرء، ويصعب عليه تمييز سماتها ولا سيما إذا كانت هذه الاعمال، تصب في النهاية، في طاحونة الادب الانساني الايجابي

هذه الخواطر تتملكني، خصوصا، كلما أعدت قراءة (احزان صحراوية) … فلشعر (أحزان صحراوية) … اشعاعات تلمس الروح، وتداعب مشاعر وأحاسيس، مختلطة داخل النفس: البراءة، الحب، القهر، الاحباط

ومعالجات شعر تيسير مثالية في الغالب ولكن المعالجة، أسلوب في المواجهة، أما الارضية، فمشتركة، وهذه نقطة التقاء!!!!

وأما المعالجة الفنية، ذاتها، فيغريك فيها، صدقها، وحرارتها، ويشدك اليها، صدورها عن روح شفافة رقيقة، بريئة، متوقدة، ودفاقة.

ان الصدق الفني، لهو سمة قصائد (احزان صحراوية) الاساسية. فكأن كل قصيدة منها هي قطعة من روح تيسير، ونتفة من ذاتهوهذه السمة، هي التي تصنع، عادة، الاعمال الفنية العظيمة، وهي التي تجعل من هذه الاعمال شهادة فنية على عصرها، وتمثيلا لروح مرحلتها التاريخية.

ــــ ٢ ــــ

نحن أمام شعر (أحزان صحراوية) نواجه عملا فنيا، من الصعب اطلاق حكم نقدي محدد عليه، كما أنه من الصعب، تجاهله ايضا.

فلقد عكس هذا الشعر في مجمله أزمة صاحبه، كذات منفردة وازمته كبرجوازي صغير، يواجه مهمة تغيير الواقع ضمن نهج طبقته السياسي العاجز عن تقديم حل جذري للقضية الاجتماعية والقومية، وفكرها المثالي ونزعته الفردية.

ان أزمتي تيسير كذات منفردة وكبرجوازي صغير تمتزجان عنده، وتختلطان عليه، فإذا بأزمة طبقته وعجزها بالنسبة اليه، أزمة وعجزا ذاتيا! وبأخطائها وذنوبها حيال الشعب كله، أخطاء ذاتية، ان عدم قدرة تيسير على تجاوز فكر طبقته، ونهجها المثالي والفردي، وصولا الى النهج العلمي، لم تمكنه، من اقامة علاقة صحيحة بين الذات والجماعة الانسانية، فبدلا من أن تكون هذه الذات عضوا في الجماعةلها مهام محددة، واضحة، قادرة على انجازها، أضحت الذات المفردة، بديلا كاملا عن الجماعة الانسانية.

وبكلمة: أضحت الذات المنفردة لدى تيسير، (محورا للعالم): احباطات الموضوعي، احباطات خاصة بالذاتي، وعجز الذاتي، وعجز عام للموضوع!!!

من هنا يبرز ما أسميناه بالتعبير المعقد عن الواقع الموضوعي، في شعر (أحزان صحراوية) … ومن هنا يبرز أيضا انعكاس الموضوع والذات معا، كانعكاس لازمة ذاتية خاصة.  بتيسير، ويبرز شعره بالتالي تعبيرا عن احباطاته وتمزقه وآلامه ووحشته واغترابه

٣

يستوقفنا منذ البدء العنوان الذي اختاره تيسير لمجموعته الشعرية الوحيدة (أحزان صحراوية) وهو عنوان لثلاث قصائد في المجموعة: (أحزان صحراوية ١٢٣) فما هي دلالة الصحراء عند تيسير. وأي ــــ أحزان ــــ هي أحزانها ؟؟؟    

قاسيةقاسية هي الصحراء!!!

طبيعتها فقيرة، شحيحة، عطشة، موحشة!

فهي نقيض الازدهار والتقدم!

وحياة الصحراء تشتت وتيه، فهي نقيض التلاحم الإنساني والاجتماعي!

وعيش انسانها، صراع من أجل البقاءالبقاء فقطفهي أيضا نقيض الفرحانها الحزن…!!!

غير أن انسانها، يغالب ويصارع ويحاول ويغني، فاذا بغنائه نفسه مغالبة ومحاولةوإذا بأغنياته، تقطر بألم قسوة البيئة وشحهاوترشح بأحزان عيشه وغصات عطشة

سار في عينيه وهج الشمس

والرمل وعود برمال

ومدى الصحراء صمت

وعذابات ارتحال

فتغني

وسرى الصوت على مد الصحارى العربية

مودعا في الرمل غصات أغانيه الشجية

والصحراء هنا ذات دلالتيندلالة مباشرة للواقع البيئوي الاجتماعي الخاص بتيسير كابن بادية، ودلالة رمزية للواقع السياسيالاجتماعي المتخلف السائد، في العالم العربي

ولقد وهج امتزاج الدلالتين، البناء الفني، وأغناه وأخصبه، حيث تمنحنا الاولى، حرارة التصوير والثانية، خصب المضمون، وأما الحزنحزن الصحراء، فوليد طبيعي، للمعاناة البيئويةكما هو وليد فقر وتخلف الواقع العربي.

غير أن للحزن منابع من داخل هذا الانسان البدوي (تيسير) الذي يحاول ويغالب سائرا في طريق مسدود، في ضوء منهج عاجزفيقرر سلفا، وحتى قبل ارتفاع الصوت بالتغني، لا جدوى أغنياته، ولا جدوى خطاهويغاليفإذا بالصحراءلا هومن قرر عدم جدوى الفعل (قصيدة أحزان صحراوية).

٤

هذه اللاجدوى محور رئيسي، في شعر أحزان صحراويةانها لا جدوى النهج الكلي للبرجوازية الصغيرة، وهي أيضا لا جدوى، تحتمها احباطات الواقع القاسية، عند ثائروجوديسلاحه الوهم لا الحقيقة، الغيب لا العلم، فتكون احباطات الواقع هذه، كفيلة بتدمير طموحات الثائر وأحلامه، ويكون عجز وفشل نهج طبقته في التغيير، انسدادا نهائيا في أفقه، ليس بعده أمل ولا طموح.

انني قد أقفز الآن على جنح التفاتة

فأرى الطوفان

يجتاح الجزيرة

انني أركض الغي الربع الخالي

عسيرا، وتهامة

فرحة الماء بصدري

غسلت منه القمامة

ثم أعدويحسر الماءوأنمو

اخضر العود مع الغابات

في عيد النماء

انني الثلج

وأساقط أبيض

وأمتد بعيدا

انني سر الشتاء

وربيعا، أصبح العاشق

والطفل الذي يلعب

والشيخ الذي يلعب

غير اني بالتفاته

عائدا من رحلة الوهم السعيدة

ألمح الشيخ المعنى في اهابي

دونما حتى الجريدة

لست طوفانا

ولم يخضر عودي

لم أكن ثلجا

ولم أمتد في الامداء

ــــ ٥ ــــ

هذا الثائر الوجودي يسقط بفعل فشل النهج السياسي لطبقته، وانسداد أفقه فكريا في دوامة اغتراب الذات، وضياعها وشعورها الدامي بالوحدة، وعدم القدرة على التواصل الانسانيفيستحيل العمرلحظات من خشب، ويفقد كل شيء طعمه:

كنت أشتاق لو أن التبغ في صدري

  ذو طعم ولو كان مرير

وهو أمام هذا الوضع المفجع، وشعوره بالضياع التام، يفقد احساسه المادي بوجوده الانساني:

كنت أعلم

اني ضيعت مأساتي واني

مرة في العمر لم أقبض مسرة

انني ما عدت أعصابا

وعظما ــــ صرت فكرة

محض فكرة

وينطفئ في داخله كل شيء، كل شيء، حتى الحاح السؤالــــ فكل رحلته، وفعاليته وصراعه، ومحاولاته، ليست سوى خواء وضياع:

رحلتي كانت ضياعا

فوداعا

واذا كا أمسي

تافها عافته نفسي

واذا ما كان مصيري

شاطئ الصمت الكبير

حيث لا بسمة ولا لوعة حسرة

يغرق النسيان ما ضج

ينبض العرق من شك وحيرة

فأنا أطفأت في صدري الحاح السؤال

حين أدركت المال

أي نهاية فاجعة هذه؟ وأي مصير أسود! ينطفئ الحاح السؤال ــــ اذن؟ ولكن أي سؤال هذا الذي ينطفئ؟ لعله سؤال التغيير والصراع والمغالبـةلان ــــ سؤالا ــــ تفرضه فلسفة تيسير الوجوديةظل يلـح:

غيبني السؤال

أنا أكون

لم أكن

وحين لا أكون

من الذي يرى الخليج والصخور والفضاء

لعلها

لعلها الاشياء

ترى الى الاشياء

…..

ــــ ٦ ــــ

والثائر الوجودي، الذي تحطم حلمه الثوري، يسقط صريع انسداد أفقه، فلا يجد غضاضة في رثاء نفسهففي واحدة من أروع قصائده ــــ مرثية الشيخ ــــ التي كتبها بمناسبة وفاة والده، يرسم تيسير مسيرة تجربته الفاشلة هو، الثائر الوجودي مسيرة سفينته، التي ــــ تحدث غضب الامواج والحيتان ــــ وتناهت نكهة البحر، وسر البحر فيها ــــولكنها ــــ داخت اخيرا ــــ فشلت، فمالت لتنام! غير أن تيسير، في الوقت الذي يعلن انتهاء تجربته، وموته كثائريصر أن تبقى جثته، جثة ثائرملفوفة براية شجاعتها ومجدهاــــ عالية النجاد ــــ بعيدة عن التشويه والتمثيل والتلويث

فلنقل سيف جليل نائم

قد كان ينهض

ظامئ الشفرة أبيض

جاب أمداء

وخلى أثرا ايان كان

وكما يعرف هذا الجمع

لا سيف جبان

…..

أعمدوه

آن يستلقي مسجى في الغماد

في جدار المنزل الارحب صدرا

علقوه

   وليكن عالي النجاد

ــــ ٧ ــــ

ان اصرار الثائر تيسير، برغم فشل تجربته على الحفاظ على نقائه وبراءته، ونزوعه نحو التطهر من أخطاء وذنوب طبقته وأخطائه وذنوبه هـو،حيث يخلط تيسير بين الاثنين ويوقع المسؤولية، كلها على نفسهلهو اصرار يؤلمه ويؤرقه في مواقع كثيرة، نلاحظها في شعره وخصوصا اذ يساط بالتلويث والاتهامنعم لقد انتهى الثائرفشلت تجربته ولكنه لم يخن شرفه كثائر لقد انسحب من المعركة نقيا، شريفا، طاهرا

صديقتي

وجدفوا علي

ولوثت شفاهم آخر ما لدي

   براءتي

أما النزوع نحو التطهر من الذنوب، فيكاد يخنقه بأصابع الندم ويؤلمه يؤلمه

تخنقني أصابع الندم

تجتثني، تحيلني شريحة من الألم

لانني بريء

وفوق ما تحمله ارادتي

أصحو

أكون قد صلبت اخوتي

أحبتي

ويضرع الشاعر الى ــــ ايزيس ــــ لعلها ــــ تحمل شيئا عن ضميره المعذب ــــ ويهفو الى المسيح ــــ عله يفدهلكن هيهات، فلا مفرلا مفرغير الاخوة ــــ الذين ــــ جرحهم ــــ فهم وحدهم من يملك افتدائه وبسماتهم وحدها القادرة على تخليص روحه المعذبة.

يا اخوتي

أنتم رواء مقلتي

صلبتكم

جرحتكم

جرحت قلبي قبلكم

وحينما تردني ايزيس دعواتي لكم

بسماتكم تهمي على روحي مطر

تروى بها عقم الصخر

لعل يوما تخصب

وعل يوما تهب!

ــــ ٨ ــــ

والمرأة عند تيسير كالأخوة واحة أمل، وملاذ عزاء ونار طهارة وبراءة، غير انها ــــ عنده ــــ أقدر منهم، وأنقى وأبرأ وعلى هذا فلها في شعر ــــ أحزان صحراوية ــــ موقع خاص، وحضور دائم، متوهج، غني الدلالات والمرأة ــــ الملاذ ــــ البراءة، نقيض التلوث والاغتراب

ونرى تيسير، يتغنى بالمرأة، انثى وملاذا، في أناشيد حب حارة، وتلهف مشبوبوحب تيسير، حب جارف متوقد، يحل كعاصفة، في مهرجان التواصل العاطفي، وشعر تيسير، في هذا المجال ليس ضربا من شعر الغزل الانثوي بل انه نزوع عاصف للمرأة المعشوقة وصلاة ــــ ينحر فيها الفؤاد ضحيةفي محراب براءتها

غجرية

أنا ان أنحر لعينيك: ضحية

ففؤادي

امطريني

امطريني

من سديم الغيب زخات ندية

أمطريني أنت ما زلت غنية

عبق لاعشاب في نهديك

والارض الندية

لم يلطخ شفتيك الطين

بنيا وأحمر!

لم تخوني منحة الشمس

فهذا الوجه أسمر

ما كسته حلل الوجه المزور

ان المرأة، عند تيسير «نصف إله» قادرة على منح الخلاص، وغفران الذنوب انها ليست البراءة فحسب، بل انها أيضا من يمنح البراءة فنرى تيسير يقدم عذره، وكشف حسابه، لها وحدها ويهلب منها الشفاعة.

اعذريني

انا لم أدفن جبيني

بعمامة

لا ولم انحر يقيني

غير أني

لي طقوسي وصلاتي

عندما تنزف روحي

في حنايا وعشاتي

اعذرينيفالخطيئة

ان تمسيها استحالت

طفلة مشفقة القلب بريئة

ولكنه اذ تشتد عليه، قسوة الواقع، وتلفه غمامة الضياع واللاجدوى تماما يكفر حتى بإلهه الانثوي، ولا يعود في الافق سوى الظلام.

عيناك ظلام

عيناك ظلام

عبث أن نطبع ضحكتنا

ونحاول نرسم بسمتنا

فوق الشفتين

ما جدوى ـــ ما جدوى البسمة؟

والقلب تغلغله الظلمة!

في هذه المقالة المتواضعة أود أن أسأل: الا تكون هذه المحاور التي وضعنا أيدينا على بعضها في ديوان تيسير سبول (أحزان صحراوية)، ايذانا بانتحاره فيما بعد.

Posted in Uncategorized.