رئيس الوزراء علي

ناهض حتّر رئيس الوزراء الأردني المهندس علي أبو الراغب ذو جذور وصلات بالمجتمع التقليدي لم تنقطع، لكنه، بالدرجة الأولى، رجل أعمال وشاب، وتغلب عليه النزعة العملية والعصرانية. وهو، بذلك، أنموذجاً سياسياً للعهد الأردني الجديد الذي يدفعه الملك عبد الله الثاني، لكي يرى إلى السياسة من وجهة نظر “الأعمال”. وينطوي أنموذج أبو الراغب، بالطبع، على سلبيات جدية، من وجهة نظر التقليد السياسي الأردني الذي يشترط، للزعامة، شرطين: الانتماء إلى بيروقراطية الدولة والاستناد إلى قاعدة اجتماعية– شعبية من صلب العصبية الأردنية؛ قبل المحاسبة والحكم. وبالرغم من أن أبو الراغب لا يتمتع بهاتين الميزتين، فهو على موعد مع الزعامة في منتصف شهر تشرين الأول المقبل، حين تحط طائرته في مطار بغداد الدولي.
موعد مع الزعامة؟ نعم. لكن أبو الراغب يسير إليه بخطىً مترددة. فإذا كان ذلك موعداً مضروباً لاجتماعات اللجنة العليا الأردنية–العراقية المشتركة برئاسة رئيسي الوزراء في البلدين، فإن الأنباء عن قيام رئيس الوزراء الأردني بزيارة العاصمة العراقية على متن طائرة مدنية، في ذلك الموعد، ما تزال أنباءً صحافية: بل ثمة من يخشى أن تخضع الحكومة الأردنية للضغوط الأميركية، فيتم إلغاء الزيارة، أو تأجيلها. وعندها سوف يخسر أبو الراغب، مستقبله السياسيّ كلّه. لقد وضع نفسه، بإعلانه الضمني عن الخطوة التي ينتظرها الأردنيون منذ عشر سنوات، على الحافة: فإما أن يصعد إلى القمة أو يهوي. وربما لا يكون هذا قراره؛ لكن “القرار”، في العمق، يتعلق بالأردن–الذي يقف، أيضاً، على الحافة: فإما أن يكسر الحصار عن العراق، الآن، أو ينكسر! العراق هو الشريك الاقتصادي الاستراتيجي الأول للأردن. وقد استثمر الأردنيون في هذه الشركة، في عقد الثمانينات الذهبي، ما يقدر بملياري دولار، في البنى التحتية والنقل والصناعة والخدمات وسوى ذلك من أقسام الماكنة الضخمة التي شَغَّلت العلاقات الاقتصادية الثنائية، وتعطلت، جزئياً، منذ فرض الحصار الدولي على العراق، العام 1990؛ ثم شُلَّت، تقريباً، منذ العام 1995، حين انضمت المملكة إلى الحلف المناوئ للعراق، في قرار نشأ عن ضغوط واشنطن ووعودها. وقد استمرت “الضغوط”، وتصاعدت مع كل قبول جديد بها، لكن “الوعود” ذهبت أدراج الرياح!
– لم تكافئ الولايات المتحدة الأميركية، المملكة، على قرارها “بالسلام” المنفرد مع إسرائيل؛ بل، على العكس، اعتبرت أن الدور الأردني انتهى (ولم يبدأ مثلما اعتقد الملك الراحل) لدى التوقيع على معاهدة “وادي عربة”، العام 1994. وبدلاً من المساعدات السياسية المؤثرة، اقترحت واشنطن على عمان، الاندماج في الاقتصاد العالمي، على أساس المنافسة، وبالاعتماد على القدرات الذاتية! وهو ما تطلب القيام بحزمة كبيرة من التغييرات التشريعية والإجراءات الاقتصادية، السريعة كالعلاج بالصدمة، والتي لم تأخذ بعين الاعتبار، واقع البلد واحتياجاته الفعلية وإمكاناته. وبالمقابل، حصل الأردن على إعفاءات جمركية لمنتجات “مناطق صناعية مؤهلة” من مدخلات آسيوية، يسوّقها الإسرائيليون (المفروضون شركاء لازمين، في رأس المال والقيمة المضافة) وتنتجها خبرات أجنبية، وعمال أردنيون بأجر شهري يقل عن المائة دولار!
– وبسبب طبيعة تكوين الاقتصاد الإسرائيلي القائم على تحويل التقانة العسكرية الأميركية إلى مدنية، وبيعها إلى أطراف ثالثة معنية، فإن مجالات التعاون والشراكة مع الاقتصاد الأردني التقليدي، ظلت مغلقة؛ بينما أعاق التحالف الميداني للمصالح الإسرائيلية والفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، تحقيق الآمال التي عقدها الأردنيون على الأسواق الفلسطينية.
– وبسبب الضعف البنيوي للاقتصاد الأردني، وطابعه التقليدي، كما بسبب المنافسة المحتدمة بين “الأقوياء” على المستوى الإقليمي (مصر، الإمارات) فشلت، حتى الآن، التشريعات والتسهيلات المستحدثة في جذب الاستثمارات الأجنبية، ليس فقط إلى الدرجة الكافية لإحداث انتعاش اقتصادي، بل حتى إلى الدرجة التي تغطي كلفة “تحرير” الاقتصاد الأردني.
لكن، تظل الحسابات الاقتصادية الأردنية، تتم، بالطبع، على المستوى السياسي. وعلى هذا المستوى بالذات، يعيش الأردن، الآن، أقسى عملية تهميش يواجهها طوال تاريخه الحديث:
– لقد رفض الخليجيون عضوية الأردن في الحلف المعادي للعراق. وردوا على الغزل الأردني بمجرد الرضا المتعجرف (بينما واصل العراق، في أسوأ لحظات الانقلاب الأردني ضده، تمويل نصف فاتورة الأردن النفطية على سعر خاص ثابت!)
– وتبين للأردن، أخيراً، أنه مستثنى كلياً من أيّ دور في مفاوضات الحل النهائي للقضية الفلسطينية. فلا هو على طاولة هذه المفاوضات أو قريب منها مثل مصر، ولا هو على علم بأسرارها، بينما الأطراف المتفاوضة تتجاهل، تماماً، مصالحه العيانية، سواء أفي مسألة اللاجئين أو في التعويضات أو في الترتيبات الاقتصادية والمائية… إلخ
– وقد أسقط هذا التهميش السياسي ظله الثقيل على محاولات النهوض الاقتصادي في الأردن، فأفشلها؛ بل وساهم، مع عوامل أخرى ذكرناها، في حركة هجرة الرساميل المحلية إلى الخارج الإقليمي والدولي…
فلم يبق أمام المملكة، إذن، سوى العراق. وهي مغامرة، لكنها محسوبة، وتنطوي على عناصر النجاح، أكثر مما تنطوي على عناصر الفشل.
– فاشتعال أسعار النفط على نحو غير مسبوق، وبدون سقف منظور، يجدد مكانة العراق ودوره. فالسيطرة على أسعار النفط المشتعلة تحتاج إلى الإنتاج العراقي، بينما ضرب العراق، بل وحتى التشدد معه، وصولاً إلى أزمة خليجية، لا يعني سوى احتمال انفجار أزمة اقتصادية عالمية؛
– وهو موقف حرج يشلّ الولايات المتحدة الأميركية، أمام التقدم الروسي– الفرنسي لفك الحصار– ولو جزئياً– عن العراق، وسط قبول دولي وعربي، بل واستحسان للاتجاه نحو طيّ الملف العراقي على أساس مصالحة شاملة مع بغداد (التي تعرف، جيداً، شروط هكذا مصالحة).
وطالما أنه نشأ، بالنسبة إلى عمان، وضع فريد من التواد السوري–العراقي (فلا تخسر دمشق إذا اقتربت من بغداد) تكون الفرصة قد واتت الأردن للخروج، اقتصادياً وسياسياً، وبدون تكاليف باهظة – من عنق الزجاجة! فإذا اغتنمها أبو الراغب، قطف ثمرة زعامة دانية، وإذا ضيعها، دخل الأردن مأزقاً جديداً.

Posted in Uncategorized.