تليثون او صور من مأساة العجز

شيحانناهض حتّر
منذ اليوم التالي للعدوان الاسرائيلي على الضفة الغربية، تحركت الجماهير الاردنية والفلسطينية في كل انحاء المملكة، تضامنا مع الصامدين والمقاومين غرب النهر. وشهدت العاصمة عمان وعواصم المحافظات والبلدات والقرى والمخيمات، اشكالا شتى من المسيرات والتظاهرات والتجمعات الشعبية ومعظمها لم يحظ بالتغطية الاعلامية، فالاعلام الخارجي يركز على تغطية الفعاليات التي تشهد مواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن… وهي قليلة، بينما الاعلام المحلي ابدى ترددا مشوبا بالتحفظ في تغطية نشاطات التضامن الكثيفة وقد اكتفى التلفزيون الاردني ببث لقطات من مسيرتين احداهما شارك فيها وزراء عاملون، والثانية ترأستها الملكة رانيا العبدالله.
وقد نظمت الاحزاب والقوى السياسية والنقابات والهيئات المدنية، لقاءات واصدرت مجتمعة ومنفردة بيانات ومواقف واتسع هامش حرية التعبير في الصحافة اليومية وانطلق الكتاب على سجيتهم.
وتسمح لنا متابعتنا لكل هذه الفعاليات، وسواها، ان نقرر آخذين بالاعتبار الاختلافات في الرأي واللهجة والاداء، ان اجماعا وطنيا قد تبلور في البلاد على المطالبة بمبادرة سياسية رسمية واحدة هي: طرد السفير الاسرائيلي من عمان.
وقد ظهرت، بالطبع، مطالبات اخرى منها -وهي الاقل انتشارا -فتح الحدود امام العمليات الفدائية ومنها -على نطاق اوسع -تجميد او الغاء المعاهدة الاردنية -الاسرائيلية، وكذلك: قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل ابيب، وهي خطوة اعلى من مجرد طرد سفيرها، الا ان الاجماع الوطني الشعبي تبلور على مطلب الحد الادنى هذا، بينما كانت الحكومات الاردنية تتوعد باتخاذ «اجراءات» اذا ما استمرت العمليات العسكرية الاسرائيلية ضد السلطة الفلسطينية ورئيسها ومؤسسساتها ومواطنيها.
***
غير ان ذلك الوعيد، لم يكن فى الحقيقة، سوى تعبير عن اظهار الغضب وشراء الوقت، فالحل الذي تتركز عليه الافكار الحكومية هو التدخل الاميركي لانهاء الأزمة، وقد تأخر هذا التدخل اكثر من اللازم، وظلت الحكومة الأردنية، في الاسبوع الأول من العدوان، تضرب اخماسا بأسداس، وتظهر كل الوان الاضطراب:
– فهي سمحت، ولم تسمح -بالمظاهرات وتركت معظمها يسير في امان الله وتصدت بالشرطة لبعضها. واعطت لبعضها الاذن والحراسة والتنظيم على النمط الاوروبي، ولم تتمكن من منع بعضها الاخر بالرغم من بيانات المنع شديدة اللهجة، وبالنتيجة، لم يكن لدى المراجع الحكومية، سياسة واضحة ازاء التحركات الشعبية، بل انها لم تدرك حجم الغضب الشعبي، وعبث التصدي له، عداك عن عجزها عن توظيفه سياسيا…
– غير ان المراجع الحكومية ادركت بالطبع انها مطالبة باتخاذ اجراء سياسي، وخصوصا طرد السفير الاسرائيلي من عمان، وقد اوحت بانها بصدد اتخاذ ذلك الاجراء ولكنها تجاهلته، بل وتجاهلت الرد عليه او تفسير عدم قيامها باتخاذه.
– ووجدت قي الصمت ملاذا.
– ثم حشدت قواها في «اجراء» اعطته، ضمنا، طابع التعويض عن تجاهلها المطالب السياسية الشعبية ووسط هالة مصطنعة من تضخيم الحدث كاريكاتوريا عقدت الجمعة [5] نيسان ]2002[، يوما تلفزيونيا مفتوحا «تليثون» لجمع التبرعات لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية، ولانه كان مطلوبا انجاح التليثون سياسيا، فقد «استجاب» المسؤولون والبرجوازيون ومدراء المؤسسات ومواطنون، لنداءات وزير الثقافة حيدر محمود والمذيعات بالتبرع او للدقة بالوعد، بالتبرع بمبالغ وصلت الى حوالي عشرة ملايين دينار اردني.
وقد اغرى «نجاح» التليثون، مطبخ القرار الحكومي بالاتجاه نحو التركيز على الخطاب الانساني العملي، فليس مهما في ذلك الخطاب، ما تمثله العمليات العسكرية الاسرائيلية في الضفة الغريية من تصعيد سياسي، وتهديد للامن الوطني الاردني، واجتماعات لتهجير المواطنين جماعيا من غرب النهر الى شرقه، وسوى ذلك من الاخطار السياسية، المهم هو «معاناة الاهالي» و«ضرورة توفير المساعدات الطبية والانسانية» للضحايا.
اسرائيل تقتل ونحن نداوي:
هذا اكثر ما نستطيع، وهذا هو دورنا العملي الايجابي لمساعدة الاهل على الصمود، ومن اجل هذا الدور الاساسي، نحافظ على علاقاتنا مع اسرائيل! حسنا. ولكن اسرائيل ترفض عبور المساعدات الاردنية الى فلسطين، فيا للحرج! لكن الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش، الذي فاجأته بسالة المقاومة الفلسطينية وهبة الجماهير العربية الغاضبة، انقذ الموقف بالابتعاد خطوة عن البرنامج العدواني الاسرائيلي الذي دعمه -بدون تحفظ-عشرة ايام كاملة، استطاع الاسرائيليون، خلالها، تنفيذ عمليات انتقام توراتية المضمون والشكل، في حق المجتمع الفلسطيني الاسير.
هنا، تحركت الدبلوماسية الاردنية باتجاهين: نحو الولايات المتحدة الاميريكية التي زارها وزير الخارجية الأردنية، مروان المعشر، واودع عنده وزير الخارجية الاميركية كولن باول، مخاوف الحكومة الاردنية وقلقها وازمتها، ونحو اسرائيل، للحصول منها على الاذن بالسماح للمساعدات الاردنية، الطبية والانسانية، بعبور النهر لمداواة الضحايا. وبعد لأي، وفي ظروف التدخل الاميركي المستجدة، وافق الاسرائيليون على المطلب الاردني، وانطلقت يوم الثلاثاء] 9[ نيسان ]2002[، قوافل الخير الاردنية الى مبتغاها!
وهكذا تكتمل دائرة الخطاب الحكومي: فالعلاقات الطبيعية مع اسرائيل لها ما يبررها من وجهة نظر نضالية وفلسطينية، والا كيف يمكن تأمين وحدات الدم والمضادات الحيوية والمستلزمات الطبية لالاف الجرحى والمرضى، ضحايا العدوان الاسرائيلي؟!
بيد ان الفلسطينيين، صانعي الحدث المقاومين، جوادي الدم والارواح، لا يريدون «وحدات الدم ومستلزماتها» بقدر ما يحتاجون الى مواقف سياسية حازمة تحول بين الدبابات الاسرائيلية وبين اهدار دمائهم، والاردنيون، الطامحون الى التحرر من قيود المعاهدة الأردنية -الاسرائيلية، والى تحصين الاردن ازاء التهديدات الاسرائيلية، وتحسين صورته وتعزيز هيبته، لا ينظرون الى انفسهم بوصفهم اسكندنافيين لطفاء ينحصر دورهم في تخفيف المعاناة الانسانية عن ضحايا العدوان، انهم متحسبون ازاء العدوان نفسه، ويعتقدون، عن حق، انه يستهدفهم، ويأملون بأن يكون بلدهم حرا، على الصعيد السياسي، وجاهزا، على الصعيد الدفاعي، لرد المعتدين القادمين، حيث لا ينفع التليثون… ولا المداخلات الدبلوماسية الكثيفة، من اجل انجاح مقاصده.
***
وضع العدوان الاسرائيلي ضد السلطة الفلسطينية، الحكومة الاردنية، في ضائقة استراتيجية:
– فمن المعروف ان المعاهدة الاردنية -الاسرائيلية للعام ]1994[ جرى تبريرها رئيسيا، باتفاقات «اوسلو» العام ]1993[، والاولى تمثل مكعبا تاليا للثانية في لعبة واحدة اطاح بها النهج الشاروني استراتيجيا، فمهما كانت السيناريوهات التالية، فان اللعبة القادمة ستكون مختلفة، وستشهد، على كل حال، تجاذبا عنيفا بين التحالف الاميركي -الاسرائيلي المتجه نحو حلول امنية صريحة، وبين المقاومة الفلسطينية التي تجذرت، وحصلت ببطولاتها، على شرعية فلسطينية وعربية لا يمكن، بعد، تجاهلها في القرار الفلسطيني الرسمي، فأين سيكون موقع الاردن في الاستحقاقات المستجدة؟
– لقد مزقت دبابات شارون، اتفاقات اوسلو لا في التفاصيل والملحقات فقط، وانما في الجوهر، وهو ما يلقي بظلاله السود الكثيفة على معاهدة وادي عربة التي اودعها شارون، عمليا، ادراج الماضي، لا بالتفاصيل والملحقات فقط، وانما في ما كان يعد روحها: الاعتراف بالكيان الاردني، الامتناع عن عمليات عسكرية اسرائيلية تهدد الامن الوطني الاردني، الامتناع عن اعمال من شأنها احداث تهجير جماعي قسري من الاراضي الفلسطينية، ولكن ما الذي تفعله قوات الاحتلال الاسرائيلي في الضفة الغربية منذ صباح الجمعة ]29[ اذار]2002[، سوى ذلك؟
– انه وبالرغم من الاعلان الحكومي الاردني، عن رفض استقبال لاجئين جدد من الضفة الغربية، فان الاردن لا يملك، في الحقيقة، اي وسائل قانونية او سياسية او دفاعية، تحول دون تدفق هجرة فلسطينية كثيفة باتجاه اراضيه.
لقد اظهر الفلسطينيون، بالرغم من سعير العدوان الاسرائيلي، تمسكا ملحوظا بالبقاء على ارضهم، سوى انه علينا ان نلاحظ، واقعيا، ما يلي:
(1) ان التدمير الاسرائيلي للبنى التحتية في الضفة الغربية هو من العمق والاتساع، بحيث انه سوف يحول دون استمرار الحياة اليومية والفعاليات الاقتصادية كالسابق.
(2) وهو ما سيدفع بالفئات الاجتماعية المقتدرة الى هجرة تدريجية ولكن كثيفة، باتجاه الاردن بالدرجة الاولى.
(3) وذلك لانه تتوفر في الاردن بالذات حاضنة قانونية واقتصادية واجتماعية وعائلية، لاستقبال اللاجئين الجدد وادماجهم.
– ان السياسة الاردنية ازاء اسرائيل تحتمي بنظيرتها المصرية، ومن الواضج ان دور مصر العربي قد تعرض مؤخرا لضربات قوية، ويشهد انكماشا وتراجعا تحت ضغوط متداخلة، داخلية وعربية.
– ان الاجماع الوطني الاردني قد توصل الى الانتقال من «مقاومة التطبيع» الى مقاومة العلاقات مع اسرائيل، وهو سيتصاعد الى المطالبة بالغاء معاهدة وادي عربة نفسها طالما ان الاسرائيليين الغوها، عمليا، من جانب واحد.
– والاردن الذي لا يستطيع ان ينأى بنفسه وبخططه الاقتصادية الطموحة عن شبكة كثيفة من العلاقات المتعددة الاشكال مع ضفته الغربية، سيجد نفسه، عما قريب، امام استحقاقات… واجراءات ليس عند حكومته منها اليوم… سوى التليثون!

Posted in Uncategorized.