بهدوء | محاكمة العثمانيين شرط ثقافي لنهضة المشرق

لا يحتاج المرء للادعاء على الامبراطورية العثمانية؛ فالحجج الدامغة على إدانة تاريخها الأسود، متوفرة في وثائقها بالذات، كما في وثائق أجنبية ودولية، ذات صدقية عالية.
1ــــ لا نذمّ، ابتداء، أي جماعة بدوية، لأنها كذلك؛ فالبداوة نظام اقتصادي اجتماعي ثقافي أساسي في تاريخنا، واعتماد هذا النظام على عصبيّة الدم ــــ الأسطورية غالباً ــــ لعب، في بلادنا، دور المحرك الاجتماعي التاريخي، من خلال استخدام العصبية في تنظيم التغلّب وبناء الدول، وتالياً إقامة الحضارات، على نحو ما فعلته عصبيّات عربية، شادت مجتمعات ودولاً متحضرة في سوريا والعراق ومصر والأندلس؛ إنما نلاحظ أن سيطرة البداوة العثمانية على المشرق العربي، عطّلت تقدمه التاريخي، لأن العقلية العثمانية لم تتجاوز البداوة الفكرية في الدين والسياسة، وأدارت سيطرتها على مشرقنا المتحضّر ــــ الذي كان، على مشارف القرن 16، واعداً بالتحوّل إلى نمط من الحداثة الرأسمالية ــــ وفق نظام لصوصي صرف هدفه استنزاف الاقتصادات المحلية لمصلحة الأرستقراطية العثمانية. وبما أن السلطنة ظلت برّانية، فقد اعتمدت في تأمين النهب الضرائ
بي من المجتمعات المحلية على نظام الالتزام الذي يديره الإقطاعيون وشيوخ العشائر وزعماء الميليشيات. ونجم عن ذلك أمران: الاستنزاف المضاعَف للفائض ــــ ما منع التراكم والتقدم الاقتصادي الاجتماعي ــــ واتباع السلطنة، منهجياً، سياسة الحروب الصغيرة المستمرة القائمة على ضرب الإقطاعيين والشيوخ المحليين، بعضهم بالبعض الآخر، لمنع أي منهم من التغلّب والانفصال، ما أدى إلى قيام نظام فوضوي سياسياً وأمنياً، لا يعرف الاستقرار، ومحوره إثارة الفتن وحبك المؤامرات وإثارة العصبيات، ودفعها للاقتتال، وبالتالي إدامتها وتجذّرها لأربعة قرون؛ وهو ما نعيش آثاره المدمرة حتى اليوم.
2ــــ إننا نخالف النظرة البنيوية التي رأى الشهيد مهدي عامل، من خلالها، أن الطائفية هي نتاج خاص بالتبعية العربية الحديثة للإمبريالية؛ صحيح أنها، أي الطائفية والمذهبية والجهوية الخ، هي، كما يرى مهدي، بنية نظام التبعية؛ إنما الصحيح، أيضاً، أنها بنية تاريخية، شغّلتها السلطنة العثمانية، وغذّتها واستخدمتها وصلّبتها ومنحتها صيغا قانونية، في ظل غياب طويل للدولة الجوّانية، وانحطاط السياسة والثقافة والنخب، إنحطاطاً تعفينا وثيقة عثمانية هي «خط كلخانة شريف»، 1839، عن التوسّع في تفاصيله، خصوصاً أننا أوردنا بعضها في مقال سابق.
3 ــــ ذلك المزيج من البداوة العثمانية المتغلّبة والتديّن المذهبي العدائي وإثارة العصبيات، وإدارتها بالفتن وإدامة الفوضى، كانت محصلته وحصانته معا، تكمنان في غياب العروبة عن الوعي العام وانحطاط اللغة العربية وطمس التراث العربي الثقافي البالغ الثراء. وقد أوصلت السلطنةُ، العربَ، تحت حكمها إلى درجة الانقطاع التاريخي الحضاري عن تراثهم ولغتهم، حتى كان عصر النهضة، في القرن 19، الذي كان ثقافياً بالأساس، وتعبيراً عن نهوض قومي مضاد للسلطنة. ولأن هيمنة السلطنة كانت شبه شاملة على وعي طائفي متماه مع السلطان، لم تتمكن بؤر النهضة العربية من التشكّل إلا في صفوف المسيحيين أولاً، والشيعة ثانياً.
4 ــــ ولكن الجريمة الكبرى للسلطنة، أنها وأدت محاولة محمد علي لإقامة دولة قومية حديثة في مصر والشام؛ إنما ليس بقواها الذاتية المتهالكة، ولكن باستقدام الإمبرياليات الأوروبية، وتمكينها من ضرب التجربة، وتركيع مصر واستعمارها، وتوسيع نفوذها وحضورها في المشرق العربي حتى سقوطه في براثنها الاستعمارية في الحرب العالمية الثانية؛ فالسلطنة لم تحم المشرق العربي، وإنما حرثت أرضه وهيّأته للاستعمار الأوروبي، والتقسيم، واغتصاب فلسطين.
5 ـ ثم نأتي إلى جريمة القرن العشرين، أعني الجريمة العثمانية المنظّمة لإبادة الشعب الأرمني، بالإعدامات الجماعية لنخبه وذبح أكثر من مليون ونصف المليون من أبنائه، وتشريد معظم الباقين من ديارهم. ومن المعروف أن كل عناصر هذه الجريمة موثقة توثيقاً دقيقاً ـــ وبعضها بالصور ـــ ولأن الأرقام تظل بلا معنى، سنذكر، فقط، حادثة إحراق 1500 أرمني أحياء؛ لجأوا من ماكنة الذبح إلى كاتدرائية مدينتهم، عرفة، فتم إحراق الكاتدرائية بمَن فيها.
لم تكن مذبحة الأرمن في تركيا ناجمة عن فورة طائفية شعبية؛ فهذه تودي بمئات أو آلاف، لا بملايين، وإنما كانت حرب إبادة منظمة هدفها التطهير العرقي ــــ الديني في الأراضي التي كان واضحاً أنها ما سيبقى من السلطنة التي كان زمانها قد أفُل؛ فانتهت حكاية العثمانيين، كما بدأت، بالقتل؛ كل ما هناك أن وسائله أصبحت أكثر فعالية.
6 ــــ كان كل ذلك وسواه الكثير، سيظل موضع بحث في صف جامعي أو مجلة أكاديمية؛ إلا أننا نعرضه، اليوم، في سجال سياسي، لأن حكّام تركيا الحاليين، إنما يستعيدون العقلية ذاتها التي طبعت سياسة العثمانيين في المشرق: العداء للعروبة والدولة القومية في سوريا والعراق، وإثارة الطائفية والمذهبية، واستخدام المليشيات المذهبية التكفيرية الإجرامية في مسعى للسيطرة، مجدداً، على المشرق العربي. ويبدو لي الاستهداف الخاص للأرمن، اليوم، كعلامة على صحوة قرون من الهمجية العثمانية.

Posted in Uncategorized.