“الهزيمة ليست قدراً”العراق يكسر التفوق الجوي الأميركي: آفاق استراتيجية

ناهض حتّر
أسقطت الدفاعات الجوية العراقية، الإثنين الماضي، طائرة تجسس أميركية فوق البصرة. وهو حدث استراتيجي سيكون له عقابيل استراتيجية. ولإدراك ذلك، نوضح، ابتداءً، ان الطائرة الأميركية موضع الحديث هي طائرة استلثية(خفية، منسلة) مصممة بحيث لا تراها الرادارات المعادية. وهي طائرة صغيرة للغاية، موجهة عن بعد. وإسقاطها يعني أنه حدث تطور نوعي في قدرات الدفاع الجوي العراقي في أحد مجالين، فإما أن العراق امتلك القدرة التقنية على التدخل في توجيه الطائرة، وبالتالي تدميرها ذاتياً أو أنه امتلك القدرة الصاروخية على إسقاطها. وفي الحالتين تكون بغداد قد حققت انتصاراً علمياً–تقنياً كبيراً، خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار ظروف الحصار.
وإذا كنا لا نعرف التفاصيل التقنية المرتبطة بإسقاط طائرة التجسس الأميركية التي تجوب مثيلاتها سماء العراق، بدون توقف، منذ العام 1991؛ فإن المؤكد هو أن العراق طوّر رادارات تستطيع اكتشاف الطائرات الخفية ( وهي رادارات تبين أن يوغسلافيا لم تكن تمتلكها.)
نحن، إذن، أمام بداية لا نعرف مداها لتعديل ميزان القوى بين العراق والولايات المتحدة الأميركية التي تستخدم تفوقها التكنولوجي الكاسح، منذ احدى عشر عاماً، في شن حرب تجسسية وعسكرية ضد العراقيين، بدون أن يكون لدى هؤلاء، القدرة التقنية على الرد. إلا أن القيادة العراقية لم تيأس أبداً، وكانت، دائماً، مصرة على تطوير قدراتها الدفاعية القادرة على صدّ التفوق الجوي الأميركي، بالرغم من الظروف الصعبة. وحين كان المراقبون يسخرون من إصرار الدفاعات الجوية العراقية على التصدي (غير المثمر تقنياً) للطائرات المعادية، كان العراق يعمل بهمة وعزيمة من أجل الخروج من هذا المأزق. فإطلاق النار على تلك الطائرات ظل يمثل قراراً ساسياً سيادياً بالمقاومة – بغض النظر عن النتائج العملية – يؤكد لاشرعية مناطق الحظر الجوي، ولا شرعية الطلعات الأنجلو أميركية فوق سماء العراق. وما حدث الإثنين الماضي، أن هذه المقاومة السياسية السيادية أصبحت، أيضاً، فعالة من حيث النتائج؛ وأصبح لها طابع “عملي”.
***
قبل حرب الخليج، العام 1991، ظهرت مبالغات صاخبة حول القدرات العسكرية للجيش العراقي. وبعد الهزيمة المريرة التي تعرض لها هذا الجيش–جراء عوامل سياسية وتنظيمية ولوجستية– في الكويت، انقلبت المبالغات إلى ضدها. وفي الحالتين، كان المراقب العربي بعيداً عن تلمس “الحقيقة”. وهي أن الشيء الحاسم بالنسبة للعسكرية العراقية يكمن في ذلك الإصرار على تكوين ذاتها، ورفع قدراتها، وتطوير تقنياتها بحيث تكون ذراعاً استراتيجياً للدور الإقليمي العراقي. ويبدو أن هذه الدينامية لم تتعطل أبداً بالرغم من الهزيمة والحصار وتراجع القدرات المادية والقدرة على تمويل الأبحاث والتجارب. وهذه الدينامية هي الأمثولة التي ينبغي على العرب الآخرين، الإفادة منها واستنطاق دروسها، بدلاً من التذبذب بين أقصى التفاؤل الغيبي وأقصى اليأس الانهزامي.
***
التفوق الجوي الأميركي في سماء العراق– بما في ذلك القصف الصاروخي البعيد المدى– بدأ بالتفتت، لقد استقرت الاستراتيجية العدوانية الأميركية ضد العراق، منذ نهاية حرب الخليج العام 1991، على استخدام قوة الطيران والصواريخ، انطلاقاً من التفوق التقني الشامل لهذه القوة بإزاء تخلف الدفاعات الجوية العراقية، وعدم استطاعتها، تقنياً، صدّ الاعتداءات الجوية بنجاح. ومن البديهي أن هذا “الاستقرار” قد تعرض الآن إلى هزة عنيفة، وسيكون على واشنطن أن تراجع استراتيجيتها العسكرية ضد العراق الذي أثبت، بالملموس، تطور قدراته التقنية ضد الأهداف الجوية المتطورة للغاية، ما يؤشر أن راداراته وقدراته الصاروخية أصبحت قادرة على التعامل، بصورة جدية، مع الهجمات الجوية الأميركية، بالطائرات أو الصواريخ.
فبأي اتجاه سيكون الردّ الأميركي؟
أمام واشنطن ثلاثة خيارات استراتيجية: الأول هو القيام بعدوان عسكري شامل على العراق، في الجو والبر. وهو قرار صعب بالنظر إلى انعدام المبرر، وتفكك التحالف المعادي للعراق، وانغماس واشنطن في تأييد علني وقح لسياسات إسرائيل الشارونية ضد الشعب الفلسطيني. والثاني: شن حرب عصابات هي، أيضاً، غير ممكنة، بالنظر إلى أن الأردنيين والسوريين و “الأكراد” ليسوا، جميعاً، في وارد تأييد هكذا حرب. والثالث: هو السعي إلى التفاهم والمصالحة. وهو ما يحتاج إلى تفاعلات في السياسة الأميركية يبدو أنها سابقة لأوانها. أما الردّ بقصف “رادارات” ومواقع عسكرية ومدنية عراقية، فلم يعد له قيمة استراتيجية.
واشنطن، إذن، مقيدة. والعراق– من الناحية السياسية– في وضع هجومي.
***
التطور الاستراتيجي الآخر (والأخطر) الناجم عن التطور النوعي الحاصل في قدرات الدفاع الجوي العراقي، حدث أو يحدث على الجبهة السورية– الإسرائيلية. فإذا كانت الخبرات المتراكمة والقدرات التقنية المستحدثة في ميدان الدفاع الجوي لدى العراق، انتقلت أو هي في طريقها للانتقال إلى الجيش السوري… فمعنى ذلك أن سورية أصبحت أو ستصبح في وضع استراتيجي أفضل إزاء العدوان الإسرائيلي المحتمل. فهذا العدوان كان مخططاً له أن يكون نسخة من العدوان الأميركي على العراق… أي باستخدام التفوق الجوي الكاسح لتدمير جملة من الأهداف العسكرية والمدنية، بدون الاضطرار إلى الحرب البرية المكلفة. وإذا امتلك الجيش السوري، الخبرات والتقنيات العراقية، في الحرب الجوية… فهذا يعني أن إسرائيل مضطرة هي الأخرى إلى إعادة النظر بحساباتها. وهو ما يعطي لسورية، من الناحية السياسية، حقاً هجومياً أيضاً.
***
الهزيمة… ليست قدراً.

Posted in Uncategorized.