المعارضة الوطنية والمعارضة الفوضوية والمعارضة الحمقاء

5601991ناهض حتّر
في النصف الأول من الخمسينات الأردنية، اصطخبت الحياة السياسية في البلاد. ولدت أحزاب وحركات جديدة فاعلة، واجتذب النشاط السياسي والاجتماعي، عشرات الشخصيات المتنوعة المشارب والاتجاهات. ودخلت السياسة والصحافة، كل بيت أردني. وقد انصب كل ذلك في حركة وطنية تجديدية، كان لها مطالب محددة ومدروسة، ضرورية:
1-إلغاء المعاهدة الأردنية-البريطانية 2-تعريب قيادة الجيش الأردني 3-انتخابات نزيهة وحرة على أسس سياسية 4-التنمية.
وكانت هذه المطالب موضع إجماع حزبي وشعبي، وفرضت، في النهاية، نفسها. وحققت الحركة الوطنية إنجازات جعلت المغني الشعبي يتباهى بدور الأردنيين في إسقاط حلف بغداد الاستعماري بقوله:
واشرب كاسك يا أردن
بعد فشل واشنطن!
اشرب كاسك يا بياظ
خلي المستعمر ينغاظ!
واشنطن، بالطبع، لم تتركنا في حالنا، فكان ما كان من إجهاض المنجزات الوطنية والديمقراطية الأردنية في العام 1957… غير أنه لا بد من القول، للموضوعية التاريخية، أن الفوضى السياسية التي أججها معارضون غير مسؤولين، ينفذون أجندات خاصة، ومعارضون آخرون يتحلون بالحماقة، وآخرون يشتغلون مع السفارات… كان لها دور في تسهيل البرنامج الأميركي في الأردن، وشطب تجربته الديمقراطية، وتدمير المعارضة الوطنية.
***
وكثيرون، بالطبع، أولئك الذين يتذكرون أن النصف الثاني من الثمانينات، شهد نهوضاً في الحياة السياسية الشعبية في الأردن. وقد استقطب الشعار الديمقراطي في ذلك الوقت، جهود الأحزاب والقوى والفعاليات والشخصيات الأردنية. وظهر نوع من الإجماع الوطني على ضرورة: 1-إلغاء الأحكام العرفية والعودة إلى سيادة الدستور والقانون؛ 2-إطلاق الحريات العامة، الحزبية والصحافية وسواها 3-إجراء انتخابات حرة 4-محاربة الفساد وإجراء حوار وطني حول الشأن الاقتصادي-الاجتماعي.
ولقد أصبح هذا البرنامج، في أساسياته، موضع حشد وتأكيد، ومحوراً للحياة السياسية، وجهود المشتغلين بالعمل العام. وسواء أكان الحديث في ندوة قانونية أو سياسية أو أدبية أو عرس أو عزاء، فقد كنت تجده ينصب حول البرنامج نفسه. بيانات الأحزاب، المقالات، والنكتة الشعبية، والقصائد… كلها أصبحت تدور حول الشعار الديمقراطي. وقد تجلى كل ذلك في هبة نيسان 1989، حين تبلور الإجماع الوطني، وفرض نفسه.
سوى أنه، في المناخ الديمقراطي الحاصل، فقد الإجماع الوطني على أي برنامج، وانطلقت الأجندات الخاصة من كل حدب وصوب، للتعبير عن نفسها بطلاقة. وقد ساعدت الأحداث الإقليمية، وخصوصاً حرب الخليج الثانية، على إطلاق الديماغوجيات الحمقاء من عقالها، ثم السقوط في وهدة اليأس، مما شهدناه في النصف الأول من التسعينات.
وفي غياب البرنامج الوطني، والإجماع الوطني… تشتّتت الحركة الشعبية، ووقعت الأحزاب فريسة بناها الداخلية الفقيرة والهشة، وملأ نفر من “الزعماء”، الفراغ السياسي الحاصل. والزعيم الفرد لا يلتزم ببرنامج، ولا يقرأ موازين القوى، ولا يعرف الأولويات… سوى أولوية الحفاظ على صورته وحضوره، لامعين.
أكبر الحركات السياسية الشعبية (الحركة الإسلامية) صار لها، من حيث الجوهر، أجندة خاصة تكمن في اتجاهها للتعبير عن “الكتلة الفلسطينية” وتمثيلها، والاستقواء بها لتحصيل مكاسب حركية ومكاسب أيديولوجية ومكاسب نيابية وحكومية وشخصية.
اليسار الذي ضربه سقوط الاتحاد السوفييتي على رأسه، لم يستفق. ولم يبحث عن دوره الوطني، وخصوصاً لجهة الدفاع عن مكاسب الفئات الشعبية أمام هجمة الخصخصة والتحديث الليبرالي–الكمبرادوري.
واليسار الأردني-بالأصل-ليس كلّه أردنياً… فنصفه على الأقل مجرد امتدادات لقوى غير أردنية. أما قلب اليسار الأردني المتجذر في التربة الاجتماعية-الثقافية الوطنية، أعني الحزب الشيوعي الأردني، فقد تشتت شيعاً متقاتلة. ولم يعد قادراً على الاستقطاب لافتقاره، ابتداءً، إلى الرؤية والبرنامج. وهكذا، اصطادت الليبرالية الجديدة، عدداً كبيراً من المثقفين اليساريين؛ بل وأصبح أحدهم-وهو يمثل اتجاهاً عريضاً-وزيراً في الحكومة التي اغتالت خبز الأردنيين وشرفهم الوطني، فسعت إلى فرض حكم القوى الليبرالية-الكمبرادورية على الضد من مصالح الشعب الأردني والدولة الأردنية، وتحويل البلد… إلى قاعدة أميركية ضد العراق.
***
وفي مناخ التسعينات، في ظل الفوضى السياسية الناشئة عن غياب الأجندة الوطنية-على مستوى الحكم وعلى “مستويات” المعارضة-أصبح ممكناً تحطيم التابو، وتوقيع المعاهدة الأردنية–الإسرائيلية للعام 1994، وما تلاها من محاولات قسر المجتمع الأردني على التطبيع مع إسرائيل. وهذا، بحد ذاته، كان يشكل أجندة خاصة لفئات محددة.
***
… وسقط العمل الحزبي في آليات الدكاكين… حتى أصبح عندنا حزبان يبشران بالنظرية العالمية الثالثة للعقيد القذافي! وأصبح لدينا مجلس لأحزاب المعارضة، قد ينشغل أياماً في إنجاز… بيان! لماذا؟ لإنه ليس ثمة إجماع وطني، وليس ثمة أجندة وطنية… بل أجندات من كل لون وشكل! تسبح في مستنقع من الديماغوجيات الفارغة… ويقابلها مجلس للأحزاب الوسطية؛ وهي -كلها-بلا رؤية ولا لون ولا شكل… تقف وراءها أجندات شخصية!
***
أين هي الرؤية السياسية الواقعية القادرة على التحرك، في إطار موازين القوى، لتحقيق الإجماع الوطني على سياسة خارجية تستجيب، في الآن نفسه، لجملة ضرورات-قد تكون متعارضة-وتحقق، في النهاية، المصالح الوطنية؟
– الحكم -بلا رؤية-يخوض في سياسات تجريبية يوماً فيوماً
– المعارضة -بلا رؤية-تخوض في التنافس على المواقف اللا-مسؤولة ومنها “فتح الحدود أمام الجهاد”!
… ولا كلمة عن “التوطين”!
وأريد أن أكشف، هنا، هذا التواطؤ بين السياسة الرسمية الملحة على مقتضيات “وادي عربة”… وبين “المعارضة” التي تنفج بالعنتريات! فكلتاهما تصمتان عن “التوطين”! وهذا هو الذي أتاح لوزير الخارجية الأردنية أن يصطف في مناقشات القمة العربية، إلى الجانب المصري الذي يلح على شطب حق العودة من البيان الختامي للقمة، ضد الجانب اللبناني-السوري الذي يلح على أولوية عودة اللاجئين والنازحين.
كيف؟!
أليس الأردن هو الدولة التي تستضيف أكبر نسبة من اللاجئين، وتقريباً كل النازحين؟!
أليس التوصل إلى إجماع وطني على “حق العودة” هو أولى المهمات الملقاة على عاتق الأحزاب الوطنية، بحيث يفرض نفسه، في النهاية، على القرار السياسي الرسمي؟!
أسأل-فقط-ما معنى سكوت “المعارضة” عن قضية “العودة” وهي-بلا شك-القضية رقم (1) بالنسبة للأردن والأردنيين؟!
***
أين “المعارضون” الإسلاميون والقومويون واليساريون… من التصدي للبرنامج الليبرالي العولمي الكمبرادوري الذي تنفذه “حكومة” داخل الحكومة، بوسائل استبدادية، وبالقوانين الاستثنائية، وعلى الضد من مصالح القوى الاجتماعية الشعبية، ومتانة مالية الدولة؟!!
***
المجال لا يتسع. ولذلك، فالاستنتاج الرئيسي، عندي، هو الآتي:
 هناك ثلاثة أنواع من “المعارضات”: وطنية وفوضوية وحمقاء!
الأولى هي تلك التي تحدد رؤيتها وبرنامجها السياسيين في ضوء الأجندة الوطنية للدولة الأردنية، وتحشد وتصارع من أجل تحقيق المشروع الوطني الأردني (التنموي -الديمقراطي) وتتسم بالمسؤولية إزاء المصالح الوطنية والشعبية، وتأخذ بعين الاعتبار وبدقة، موازين القوى الدولية والإقليمية والمحلية، في إطار العقلانية السياسية، والسعي على الإنجاز الوطني.
والثانية… هي تلك التي تنفذ أجندات خاصة، محلية وخارجية. ومؤدى نشاطها: الفوضى السياسية. وقد استخدمت هذا التعبير: فوضوية لئلا أستخدم تعبيراً آخر. فتش عما وراء “الشعارات” الديماغوجية والنفج… ستجد مصلحة هذه الفئة أو تلك، أو هذه القوة الإقليمية أو الدولية أو تلك!
والثالثة… الحمقاء… التي تستحي أمام المزايدين… أو يغرها الكلام الكبير، أو تجد نفسها تردد “الهتافات”… بدون أن تدرك أو تسأل: لمصلحة مَنْ؟!

Posted in Uncategorized.