الثابت والمتحول في جمهورية بشار-4

لو أمدّ الله في عمر الرئيس!!!

ناهض حتّر
– أيهما أفضل: ضربة رئاسية حاسمة لمراكز النفوذ أم معركة ديمقراطية مكشوفة تخوضها القوى الاجتماعية الحية؟
– لهذه الأسباب، لن ينتعش التيار الأصولي في سورية الجديدة.
– مراكز النفوذ مع مصالحها المباشرة…وتعادي قوى الإنتاج في القطاعين العام والخاص.
«لو أمدّ الله في عمر الرئيس الراحل، بضعة أشهر أخرى، لوفر الشعب السوري على نفسه بضع سنوات من المعاناة.» يقول محدثي الدمشقي في ملاحظة استمعت إليها تكراراً من مطلعين سوريين يشرحون الأمر كالتالي: كان الرئيس حافظ الأسد قد اتخذ قراراً استراتيجياً بتصفية مواقع مراكز النفوذ والفساد والإفساد في الإدارة والحزب والدولة. وكان قد بدأ بتنفيذ هذا القرار فعلاً، عندما توفاه الله.
والآن؟
– أصبح الأمر أكثر صعوبة. فما كان الأسد الكبير، بثقله المحلي والإقليمي والدولي، قادراً على إنجازه في بضعة أشهر، وبضربة واحدة، أصبح مهمة ثقيلة، تحتاج إلى وقت وجهد وصراعات من أجل تنفيذها.
محدثي الذي أُغفل اسمه عامداً: علماني وديمقراطي… بل من غلاة الديمقراطيين؛ ومع ذلك فإنه لم ينتبه إلى أنه يقيم ملاحظته على الإيمان بالقدر، والإيمان بالمستبد العادل. فبالنسبة لديمقراطي حقيقي فإنه من الخير لمستقبل المجتمع السوري أن يخوض معركته ضد مراكز النفوذ والفساد، باستجماع قدراته الجماعية وفعالياته السياسية الحية، وفي معركة ديمقراطية مكشوفة… مهما كانت صعبة ومؤلمة، على أن يتم التغيير بالاستناد إلى الثقل الشخصي للزعيم والقائد. “فالتطهير” الآتي من الأعلى لن يضرب جذوره العميقة في قلب الإدارة والدولة اللتين، في غياب الديمقراطية والشفافية، ستجددان، تلقائياً، قيام مراكز نفوذ، وبالتالي قوى فساد جديدة.
المعركة الآن مفتوحة على الاحتمالات. والصراع سوف يصلّب قوى الإنتاج والتقدم، ويخصبها، ويبلور أفكارها واتجاهاتها وقياداتها، بحيث تفرض نفسها كحقيقة اجتماعية راسخة وفاعلة وغير قابلة للإلغاء أو التغييب. وهذه القوى موجودة في سورية اليوم. وهي موجودة في الدولة والمجتمع معاً. وهي تدرك بأن الرئيس السوري الشاب (بالرغم من اضطراره للتعامل مع معطيات متضادة، وإدارة التناقضات بما يفرضه عليه موقعه الرئاسي المسؤول عن تجاوز المرحلة الانتقالية بأقل ما يمكن من الخسائر) ليس، فقط، حامي القوى الحية في المجتمع السوري، بل هو جزء منها، وفي قلبها.
وإذا كانت الصحافة العربية قد فوجئت، اسمته “الحياد الرئاسي” و”سعة صدر الرئاسة” حيال وثيقة “لجان إحياء المجتمع المدني” (الجذرية في نقدها لكل مظاهر تجربة “المشروعية الثورية” في سورية)، فإن أصحاب الوثيقة أنفسهم لم يفاجؤوا… ذلك أن هذا النشاط نفسه، وهذه الجرأة نفسها، تنطلقان أساساً من جرأة يقين… بأن الرئيس الشاب سوف يحمي هذا النشاط… وهذه جرأة!
وعلى الفور ظهرت “تفسيرات” صحافية، لهذا “التسامح الرئاسي” تقول بأن القيادة السورية تشجع القوى الديمقراطية العلمانية على التبلور وملء الفراغ، في مواجهة توسع محتمل للحركات الأصولية. وهذه “التفسيرات” لا تطرح على نفسها السؤال عما إذا كان الرئيس الشاب هو نفسه مؤيداً للتغيير الديمقراطي، وعما إذا كان للحركات الأصولية، بالأساس، أي حظ بالتوسع في سورية.
من الواضح أن بشار الأسد، قد حسم أمره، نهائياً، باتجاه الخيار الديمقراطي الجذري. وهو بعث، في هذا الصدد، عدة رسائل، علنية وضمنية، وصلت إلى كل من يهمه الأمر في سورية. وهذه الرسائل-بجديتها وعمقها وتأكيدها الحازم على حرية الرأي والنشاط السياسي الديمقراطي-تعكس، بمجملها، استراتيجية مقرطة غير ملتوية-وإن تكن بطيئة بطء التأسيس المتين لعمارة المستقبل، فليس مطلوباً، في سورية، غورباتشوفية أخرى تؤول بهذا البلد العربي المركزي إلى الفوضى.
وفيما يتصل بالحركات الأصولية، فلا توجد معطيات على إمكانية تحقيقها انتشاراً أساسياً في سورية، للاعتبارات التالية:
أولاً-أن سورية بلد متعدد الأديان والطوائف، وهو ما يجعل أي حركة أصولية في النهاية، ذات طابع طائفي (وليس وطنياً عاماً). فأي حركة أصولية ستعمل، في النهاية، داخل طائفة… لا داخل المجتمع كلّه، وهو ما سيعصف بمشروعيتها وقدرتها على تحصيل الإجماع الوطني؛ في حين أن القوى العلمانية-القومية-الديمقراطية هي المؤهلة، بطبيعتها، لاختراق التعدد الديني-الطائفي-المذهبي-الإثني، وبلورة حركات اجتماعية وطنية قادرة على تمثيل المجتمع العمومي ومصالحه الأساسية، وتوجهاته التقدمية والتنموية.
ثانياً-إن التقاليد العلمانية-القومية، هي عميقة الجذور في سورية؛ وقد عجزت الحركات الأصولية، تاريخياً، عن إلغاء هذه التقاليد أو إضعافها جدياً.
ثالثاً-إن القوى الأصولية تورطت، نهاية السبعينات-أوائل الثمانينات، بالدم في سوريا. صحيح أن النظام السوري كان قاسياً في قمع هذه القوى، لكن الصحيح أيضاً أن هذه القوى شتتت، بالفعل، حرباً أهلية طائفية الطابع، مستخدمة وسائل عنيفة، بما في ذلك الاغتيالات والقتل على الهوية وتفجير المدارس وذبح الأطفال…إلخ مما لايزال المجتمع السوري يذكره، ويحذر منه، في بلد مسالم بطبيعته، وغير ميال للعنف والدم.
رابعاً-هناك ميل قوي لدى القوى الحية في المجتمع السوري، إلى استبعاد قوى الماضي من حركتها الجديدة لمقرطة سورية. فليست الحركات الأصولية، فقط، مستبعدة، ولكن معارضات الماضي-بما في ذلك المعارضات الشيوعية والبعثية-مستبعدة هي أيضاً، للنأي بالحركة الديمقراطية-الإصلاحية، عن ظلال وفواتير معارك الماضي؛ بل إن الأصوات الديمقراطية الأعلى في سورية اليوم، تلوم الأفرقاء كلهم على أخطاء تجربة الماضي، ولا تريد أن تكون امتداداً لها.
خامساً-وفي السياق نفسه، فإن الفكر السياسي الجديد في سورية، يحمل الحركات الأصولية، بالقدر نفسه، المسؤولية عن غياب الديمقراطية في البلاد في الثمانينات والتسعينات حين فرضت “الحرب الأهلية” التي شنها الأصوليون، ردات فعل عنيفة من قبل السلطات لم تشملهم وحدهم، وإنما شملت معهم، بالضرورة، كل القوى السياسية الأخرى.
سادساً-إن المعضلة الأساسية في سورية، اليوم، هي معضلة الإصلاح الاقتصادي. ولا يوجد حل، عند الأصوليين، لهذه المعضلة. ولا القدرة السياسية أو الفنية للمشاركة في الحوار من أجل حلها. ولذلك فسيظل هؤلاء خارج الحوار الوطني الأساسي المتمحور على طرق الخروج من الأزمة الاقتصادية المزمنة. ولكن إذا فشل الإصلاح الاقتصادي وآلت التجربة الإصلاحية برمتها إلى طريق مسدود، فإن الأصوليين سيظهرون، عندئذ، كتعبير موضوعي عن انسداد الأفق أمام الطبقات الشعبية.
وهذه الإمكانية تفرض على القيادة السورية، التسريع في إجراءات الإصلاح الاقتصادي. ونحن لا نتحدث، هنا، عن جملة إجراءات وقرارات، ولكن عن تبلور استراتيجية تغيير واضحة، تسعى إلى زيادة النمو بصورة غير مسبوقة، بدون الإضرار بمعايير العدالة الاجتماعية، أو بقدرات سورية العسكرية أو دورها الإقليمي ومكانتها الدولية. وهذه، بلا شك، مهمة صعبة للغاية.
***
في السبعينات، حقق الاقتصاد السوري، قفزات في معدلات النمو بلغت حوالي 10 بالمئة في السنة. ونتج ذلك عن استثمارات كثيفة قام القطاع العام بالقدر الأكبر منها-وبلغت بين 25 و30 بالمئة من الدخل القومي.
إلا أن هذه الاستثمارات لم تكن ناتجة عن حيوية اقتصادية داخلية، ولكن بقرارات سياسية مولتها المساعدات العربية والسوفياتية. ويلاحظ د. نبيل سكر أن السياسة الاقتصادية في السبعينات، اعتمدت منهج “إحلال الواردات بدون تشجيع التصدير (.) وتثبيت الأسعار، وتنظيم برنامج تعظيم العمالة، وتوفير التعليم المجاني والخدمات الصحية والدعم الاستهلاكي والإنتاجي. ومما لا شك فيه أن هذه الآلية الاقتصادية كانت تقوم، ويتطلب استمرارها، استمرار تدفق المساعدات الخارجية التي انحسرت مع مطلع الثمانينات، وتقلصت، في أواسط العقد، من حوالي مليار ونصف المليار من الدولارات إلى أقل من ثلاثمئة دولار سنوياً. ومن هنا، يقول سكر «وقع الاقتصاد السوري في أزمة شديدة تمثلت في نقص واختناقات في العرض السلعي، وفي تضخم مفرط. وقد قامت الحكومة السورية، آنذاك، بجملة إصلاحات جزئية، وساعدها، بصورة خاصة، بدء تدفق أموال النفط السوري التي عوضت البلاد عن المساعدات الخارجية (عائدات النفط السوري تفد بحوالي 1,5 -2 مليار دولار سنوياً) وقد كانت أموال النفط السوري مفاجأة سعيدة للإدارة الاقتصادية الجامدة، ساعدتها على الشعور بالاطمئنان، ووقف عجلة الإصلاحات أو إبطائها، ما أدى إلى تراكم الاختلالات الهيكلية الأساسية التي عولجت، هنا وهناك، بإجراءات انتقائية، بينما كانت القوى النافذة تستفيد من القيود المفروضة على الحرية الاقتصادية، للدخول في شراكة مؤثمة مع فئات طفيلية وكمبرادورية في القطاع الخاص… بحيث أصبح هذا الاقتصاد السري في النهاية- بما في ذلك التهريب- ورماً سرطانياً يهدد الاقتصاد السوري كله، ويعصف بالقوى الإنتاجية في القطاعين العام والخاص.
العام 1991، صدر قانون الاستثمار رقم (10) الشهير والذي يمنح المستثمرين سلسلة من الإعفاءات الجمركية والضريبية غير المسبوقة بهدف تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي في سورية، وزيادة نسبة النمو. إلا أن هذا القانون فشل في تحقيق أهدافه، أولاً لأن القرارات الاستثمارية المحلية والأجنبية تقوم على معايير عدة، تتعلق بمجمل البيئة الاقتصادية وحجم السوق والقوة الشرائية القائمة والمحتملة فيه… ولا تشغلها “الإعفاءات” إلا بالدرجة الثانية، بينما “المستثمرون” الذين يقبلون على الاستفادة من هذه “الإعفاءات”، بالشراكة مع الإدارة، هم أولئك الطفيليون الذين لا تعنيهم العناصر الرئيسية لإقامة استثمارات جدية. وهكذا، بينما أفاد هؤلاء من تسهيلات القانون رقم (10)، للحصول على سيارات نقل غير مجمركة ولإنشاء مشاريع وهمية… إلخ، كانت الإدارة الاقتصادية، تستخدم “القيود” التقليدية لتعصف بتجربة صناعية مميزة في سورية، هي تجربة رجل الأعمال رياض سيف… بعد أن كانت قد عصفت بالقطاع العام، وحولته إلى جملة شركات خاسرة.
فقوى النفوذ-وإن كانت ترفع شعارات “اشتراكية”-ليست، في الحقيقة، مع القطاع العام ضد الخاص… وليست تلك التي ترفع شعارات ليبرالية مع القطاع الخاص… ضد “ترهل” القطاع العام… بل هي، دائماً، مع مصالحها المباشرة التي تتعارض، فعلياً، مع قوى الإنتاج في القطاعين. وللحديث صلة.

Posted in Uncategorized.