الانتهاكات الأمريكية

أظهرت الأزمة الناجمة عن انكشاف فضيحة الانتهاكات الأميركية ضد حقوق الإنسان في العراق، مدى ضعف إدارة بوش الصغير. فلم تعد هذه الدمية الغبية التي يتلاعب بها المحافظون الجدد، تتوعد أو تبشّر، بل تكرر الأسف كالببغاء.أين هو بوش الصغير الذي هبط، بكامل عدّة الجندية، على إحدى حاملات الطائرات، في أيار 2003، ليعلن “النصر” في العراق؟ أين هي غطرسته وتهديداته ومشروعه “لمقرطة” و”إصلاح الشرق الأوسط الكبير”؟ كأنه صحا من سكرة قديمة لازمته حتى بضعة أيام خلت، ليعلن أن “الولايات المتحدة الأميركية تواجه أوقاتاً صعبة في الشرق الأوسط “بينما يترنح وزير دفاعه، رونالد رامسفيلد، ويسقط سياسياً، أمام هجمات الكونغرس!
ولا يتعلق الأمر، أبدا،ً بما يسمى “الديمقراطية الأميركية” أو بالاستيقاظ المفاجئ لضميرها الميت إزاء تدفق الصور والأفلام “التي لا يمكن تصديقها” -حسب رامسفيلد نفسه- حول التعذيب الهمجي للأسرى وللأسيرات في العراق. دعونا من ذلك، ولنلاحظ أنه صراع القوى داخل المؤسسة الأميركية التي تشهد انقلاباً “ديمقراطياً-جمهورياً” ضد المحافظين الجدد وسياساتهم.
لقد قلنا، دائماً، إن المؤسسة الأميركية ليست مجمعة على حرب العراق، وإنها تفتقر إلى العزم والتصميم لإنجاح مشروع هو مجرد مغامرة غير مدروسة، كان وراءها بضعة مهووسين اغتروا بالقوة العسكرية الأميركية، ولم يحسبوا موازين القوى على الأرض. وكان همهم الأول، ليس نجاح المغامرة، بل تدمير الدولة العراقية لحساب المشروع الصهيوني في طبعته الشارونية. ومن الواضح أن لحظة انهيار المحافظين الجدد كانت هي، بالذات، لحظة نجاحهم في توجيه دميتهم، بوش الصغير، نحو منح شارون “خطاب ضمانات” مضاد للشرعية الدولية في قضايا رئيسية مثل حدود 1967، والمستوطنات، وحق العودة.
في هذه اللحظة بالذات، تحركت القوى المناوئة في المؤسسة الأميركية، ودفعت باتجاه نشر الصور الفظيعة لانتهاكات حقوق الإنسان في العراق. ومن المعروف أن هذه الصور والتقارير التي تساندها، موجودة في تصرّف المؤسسة الأميركية منذ بضعة أشهر. ولكن، جرى استخدامها، على نحو مؤثر وعاطفي، في توقيت انقلابي، أطلق رصاصة الرحمة على المشروع الإمبراطوري الأميركي في العراق… والشرق الأوسط.
وقد تابعنا، بانتباه شديد، الكتابات الأميركية على مدار العام الماضي، ولاحظنا، دائماً، أن النخبة الأميركية تنظر بارتياب وانعدام يقين إزاء الحرب في العراق. وكانت تتوقع، مبكراً، “الأوقات الصعبة” في مواجهة المقاومة البطولية الاستثنائية التي شنها العراقيون مباشرة بعد احتلال لم يكن-وليس له-أية مقومات سياسيّة.
نحن، العرب، نعرف بالطبع، ماذا يريد الأميركيون من العراق! النفط .. وتغيير موازين القوى لمصلحة إسرائيل. سوى أن الحرب كانت تحتاج، أميركياً، إلى أساطير: أسلحة الدمار الشامل، علاقة بغداد مع الإرهاب، حقوق الإنسان… وبالنسبة الى منظّر المحافظين الجدد، بول ولوفيتز، كان الأمر ببساطة إزاحة جدار برلين… الفاصل بين الولاء لأميركا ” وقيمها ” وبين الشعب العراقي الذي يمنعه الرئيس صدام حسين من الارتماء في الأحضان الأميركية.
لقد سقطت هذه الأساطير واحدة تلو الأخرى. وفي اللحظة المناسبة، تحركت قوى أساسية في المؤسسة الأميركية، لكي تحطم الأسطورة الباقية: “حقوق الإنسان” في العراق، تلك التي انتهكها الأميركيون على نحو “لا يصدق”.. ولم يعد لبوش الصغير ما يقوله سوى الأسف.. على نفسه! لقد وضع غطرسته جانباً، ووقف، مستجدياً، أمام الملك عبد الله الثاني.. وتحرك لاستجداء زعماء عرب آخرين، بينما مستشارته الفاشستية للأمن القومي، كوندليزا رايس، تلحس بصاقها، وتستعد للقاء رئيس الوزراء الفلسطيني، هي التي كانت تصرح، قبل ثلاثة أيام، أنه لن تكون هناك رسائل تطمينات لأية دولة عربيّة!
لا بد أن نلاحظ الآن المشهد الأميركي بدقّة. لقد فقدت سياسة بوش الصغير، العراقية والشرق أوسطية، كل مقوماتها. وهناك ما يشبه الإجماع الديمقراطي– الجمهوري، على نبذ المحافظين الجدد الذين أوقعوا الولايات المتحدة الأميركية في المستنقع العراقي.
إن إدارة بوش الصغير هي الآن معلقة في الهواء، ضعيفة إلى درجة مخزية، وقد هزمها أسود الرافدين، وأثخنوها في مقاومة ضروس، شجاعة، جبّارة، ينبغي أن نعترف، الآن بالذات، أن الرئيس صدام حسين… كان القوة الرئيسية في تحضيرها وإطلاقها.
وعلى الرغم أن الرئيس صدام الآن في أسر الأميركيين، فإنه يستطيع أن يفتخر بصحة سياساته وقدرات جنده ودقة توقعاته، بينما يطأطئ بوش الصغير رأسه.
هذه، إذن، أوقات الضغط على إدارة بوش، واستنزافها في الأشهر القليلة الباقية للقوات الأميركية في العراق. ولعل الحكومة الأردنية تدرك أنه أصبح من المناسب الآن أن تستدرك الموقف، وتعلن– مثلما فعل الرئيس بشار الأسد-شرعية المقاومة العراقية.
فالسياسة-على المستوى الإقليمي والعربي والدولي-تحدث في العراق –لا خارجه-وأسود المقاومة هم القادمون إلى سدّة العراق، وهم الذين سيحددون المسار اللاحق للقضية الفلسطينية، وللجامعة العربية، وللتبدلات السياسية في الإقليم.

Posted in Uncategorized.