معاناة

ناهض حتّر شقتي القديمة كانت كلها مكتبة ازدحمت فيها الكتب على الأرفف وفي الغرف وحواف النوافذ والمداخل والبرندات -فلما انتقلت الى شقة حديثة، وجدتها قرعاء من تلك التفاصيل والزيادات المعمارية الحلوة والعملية؛ وصار لا بد لي من ان اخصص غرفة واحدة، مكتباً ومكتبة لي ولزوجتي التي جمعت بدورها الاف الوثائق ومئات المصادر والمراجع عن كنائس شرق الاردن البيزنطية لأغراض إنجاز رسالة دكتوراه في الموضوع الشائك!
طيّب! وجدت نفسي مضطراً للاستغناء عن مجموعات من الكتب، وتخزين اكثر من الفي كتاب، وواجهت، هكذا، محنة الاختيار في معاناة نفسية وفكرية وجسدية استمرت اياماً بلياليها، لكل كتاب، اولاً، ذكرى توقظ في النفس مشاعر مختلطة! لن استسلم فلديّ عمل كثير، ولكل كتاب، بل -على الاصح -لكل مجموعة من الكتب، سياق يلخص مرحلة فكرية وسياسية. فألاحظ مثلاً -ان الشيوعيين العرب -وخصوصاً اللبنانيين -كانوا في السبعينات والثمانينات نشطاء جداً في مجال النشر، تأليفاً وترجمة، في خطاب مفتوح الى المثقفين يركز على الآتي:
1. احياء النزعات الديمقراطية والتقدمية في التراث العربي والاسلامي والمحلي.
2. تأكيد قدرة الجماهير على صنع حياتها مستقبلها.
3. التأريخ للحركة الشيوعية العربية ونشر مذكرات المناضلين لتدريب الاجيال الجديدة.
4. بحث المشكلات المتعلقة بالتحولات الاقتصادية -الاجتماعية ومقاومة الرأسمالية الطُفيلية (بضم الطاء طبعاً) والكمبرادورية.
5. التأكيد على التنمية الوطنية والتوزيع العادل للثروات الوطنية.
6. تقديم تصورات اكثر عمقاً ونضالية لمقاومة اسرائيل والصهيونية.
7. تأصيل العداء العربي للإمبريالية الاميركية.
8. آليات الانتقال العربي الى الاشتراكية.
والى جانب النشر العربي، كان هناك النشر السوفياتي، معظمه يستحق التخزين فعلاً، بل قل الإتلاف. اكداس من المطبوعات الزائفة الدعائية… ولكن الى جانبها ابداعات ماركس وانجلز ولينين وروائع الادب الروسي.. كنا نشتريها بقروش قليلة… وهذه احدى فضائل الاشتراكية؛ تمكين الكادحين والشباب من اقتناء الكتب العظيمة.
***
لقد اصبح كل ذلك من الماضي. ولم يعد يثير اشجاني. سوى انه يذكرني بسنوات الالم والضياع التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي والشيوعية العالمية والتمرد العراقي مطلع التسعينات. هنا. او، للدقة، في اواسط التسعينات، استعاد النشر التقدمي العربي بعض عافيته: اصدارات كثيفة للمفكر العربي المصري الماركسي سمير امين -الذي كان ممنوعاً من قبل الرقابة الشيوعية في الحقبة السوفياتية واعاد الشيوعيون العرب اكتشافه -وايضاً: المفكر والكاتب السياسي السوري الفذ الراحل ياسين الحافظ… ورفيقه ومواطنه، الياس مرقص. ومن الأردن هشام غصيب… واسماء جديدة من كل انحاء العالم العربي تدخل في حوار مع العصر، وتستنطق المستقبل الديمقراطي، سياسياً واجتماعياً.
***
المفكرون الاسلاميون الحداثيون سقطوا في الطريق واحداً اثر آخر، سوى الجزائري محمد اركون الذي قدم ويقدم القراءة الاكثر اصالة للإسلام والفكر الاسلامي لا يوازيه في المستوى سوى الماركسي العراقي الراحل هادي علوي. ويتفوق الاخير بروعة اسلوبه.
***
مجموعات اخرى حول البنيوية ونقدها. نقاشات حول الادب والسياسة. الادباء والشعراء نرجسيون يظنون انهم محور العالم! والعالم يسير! وهم على هامشه!! يا للمساكين!
***
المجموعة الاردنية هي الاكبر لديّ. كل هذه الكتب والوثائق والبيانات والنقاشات. تاريخ الاردن القديم، الكلاسيكي، الاسلامي، العثماني، والمعاصر! خطط التنمية! 1989 وحواراتها. الديمقراطية الاردنية، كنا جادين حقاً في مطلع التسعينات ونملك، فعلاً، احلاماً كبيرة. سأحتفظ بهذه المجموعة اولاً… وبالمجموعات العربية-وخصوصاً المجموعة العراقية التي نافست في التسعينات نظيرتها المصرية -وكذلك سأحتفظ بهيغل، مارك، انجلز، لينين، بليخانوف.. وخصوصاً بغرامشي الى جانب المكتبة الفكرية التقدمية العربية: حسين مروة ومهدي عامل والآخرين ممن ذكرتهم اعلاه ولم اذكرهم من الكبار المجددين.
***
وايضاً. اجمل الاشعار… والروايات التي لا تموت ابداً. ومن بينها روايات مؤنس الرزاز باهداءاته الجميلة التي استولدت دموعي.
***
أصبح عندي الآن مكتبة فعّالة متحررة من جثث الورق.

Posted in Uncategorized.