لحظة مراجعة بعد «استدعاء» الدكتور هشام غصيب: ما للامن للامن… وما للثقافة للثقافة

شؤون اردنية
ناهض حتّر
اختلط الحابل بالنابل… فحين يستدعى مواطن في وزن الدكتور هشام غصيب، الى الشرطة عاجلا وبمهاتفة تتم الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، لابلاغه القرار الحكومي الامني بتأجيل ندوة فكرية، نكون قد وصلنا الى درجة من اختلاط المعايير، بل ضياعها لا يمكن السكوت عليه. ففي اسوأ عهود الاستبداد منذ السبعينات لم يحدث ان اقترب جهاز امني من حصانة الدكتور غصيب بالرغم من نشاطه الفكري السياسي الخصب. وما كنا نحن رفاقه وتلامذته -وقد قاسى بعضنا الامرين من قوى الاستبداد-لنشعر بأي غضاضة نحو هذا الامتياز الذي يحظى به استاذنا بل هو الاعتزاز بان في بلدنا تقاليد راسخة تحصن الكبار.
والدكتور غصيب قيمة كبرى في الحياة الاردنية؛ ليس لانه «وريث» والده بشارة الغضيب، احد زعماء البلقاء المعدودين-فهذه ليست ميزة ذاتية-وليس لانه استاذ جامعي مرموق -فقد حبانا الله ببعض الاكاديميين الكبار في جامعاتنا… ولكن لان راهب العلم هذا، اعطى كل شبابه ورجولته وذكائه ومكانته للفكر الفلسفي والثقافة التقدمية، وانجز في هذين المجالين -عدا عن انجازاته الغزيرة في المجالات العلمية المتخصصة-ما اعطى لجيل من الشباب فرصة فريدة للخروج من الخواء الفكري المحلي، والتمحور حول شخصية فكرية ذات وزن عربي. وكان ذلك اساسيا في تكوين حركة النشاط الفكري في التسعينات الاردنية.
وليس هذا المكان الملائم للحديث عن جهود الدكتور غصيب الفكرية والثقافية، ولكننا نشير فحسب الى ان هذه الجهود ساهمت في استمرار وضع الاردن على خارطة الفكر العربي المعاصر بعد رحيل المفكر الاردني العربي الكبير غالب هلسا.
ولعل مكانة الدكتور غصيب الفكرية، ونشاطه السياسي العقلاني، المشفوع بحصانته، وتمتعه بحرية مميزة قد اعطى للاردن، احتراماً خاصاً في اوساط المثقفين العرب… ففي بلدنا -عندهم – ثمة مكان للكبار.
والى ذلك كله، فالدكتور غصيب، ليس حزبياً ولاتربى في صفوف الحركات السياسية المعارضة، بل في القاعات الجامعية وكان منذ اواخر السبعينات، احد الكادرات الاساسية في اهم مؤسساتنا العلمية الوطنية (الجمعية العلمية الملكية) فهو اذن، وعلى نحو من الانحاء، مثقف كبير يأتي من صفوف المؤسسات الرسمية… فاين نحن لا من «الديمقراطية» ولكن من تقاليدنا، حين يستدعى هذا المثقف الكبير الى الشرطة -وفي شأن ندوة فكرية!
الا يوجد في الشرطة ضابط كبير، يقتطع من وقته نصف ساعة لزيارة الدكتور هشام غصيب في مكتبه، ليضعه في الصورة ويرجو اليه تأجيل الندوة؟!
ثم الا توجد عندنا وزارة ثقافة تتولى هذا الشأن الخطير؟!
ثم الا يستطيع رئيس الوزراء ان يقول للاميركيين: ان القوانين الاردنية تمنعنا من اجبار المثقفين على تأجيل ندوة او الغاء ندوة؟!
* * *
اعرف ان ثمة من سيقول لي: تقيم الدنيا ولا تقعدها على استدعاء الدكتور غصيب، ناسيا عشرات حالات الاستدعاء والاعتقال والتحقيق الجارية في ظلل حكومة ابو الراغب «الليبرالية» وبحق مثقفين ايضا؟!
نعم، انني احتج وادعو كل اردني شريف الى الاحتجاج على استدعاء رجل يمثل اهم قيمة فكرية وثقافية في الاردن، الى الشرطة فهذه كبيرة تسيء الى الوطن كله، الى روحه ومعناه ومستقبله… لا مجرد حادثة سياسية من حوادث الاعتداء على الحريات العامة. اعنى ان الاساءة الى الدكتور غصيب لا تقع في السياق السياسي لكي ننظر اليها سياسيا… بل هي تقع في السياق الوطني والثقافي والقيمي. وهي لذلك، تثير حفيظتنا الوطنية والثقافية والاخلاقية من القلب، ذلك ان بلدا ليس فيه حصانات ومقامات وكبار… لا يعود فيه امن ولا استقرار ولا معنى! فنحن لا نغضب، اذن للدكتور غصيب، بل نغضب للاردن الذي لم يعط لالمع ابنائه، الحصانة من الاستدعاء الشرطي بعد منتصف الليل!
* * *
وبعد، فقد آن الاوان لكي نناقش مجمل عمليات التدخل الامني في الشأن الثقافي.
لا تزدهر الثقافة الا في اجواء الحرية. وكل قيد، مهما كان نوعه، على النشاط الثقافي ليس مقبولا من حيث المبدأ، ليس فقط من وجهة نظر ايماننا الثابت باولوية الحرية، ولكن كذلك، لان تراكم القيود على العملية الثقافية يسطحها ويفقدها الاصالة ويجهضها في النهاية. فالقيود تعرقل المبادرات وتلجم الابداع، وتنشر الخوف… ولا ابداع مع الخوف وفي ظله.
ثم ان العملية الثقافية، بطبيعتها، ليست شأنا امنيا، ولا يمكن ادارتها امنيا. الا بقصد قتلها، وحين نقتل الثقافة نكون قد دمرنا هذا الدينامو الذي يحدث مجمل العملية التربوية والسياسية والاجتماعية والإنتاجية! فتتحول المدارس بالتالي الى كتاتيب والجامعات الى مدارس، والسياسة الى ملق او تطرف والنشاط الاجتماعي الى تظاهرات مفرغة وتشل فعالية المواطن وتتخرب قيمه وتهبط انتاجيته.
ان احد المقومات الاساسية للعملية التنموية هو ذلك المتعلق بزيادة الانتاجية. وهو ما يتطلب ثورة في التربية والتعليم والثقافة الجماهيرية بعامة. واذا كان كل ذلك يحتاج الى السياسات والمؤسسات والتمويل الخ، فهو يحتاج بالدرجة الاولى الى الحفاظ على الدينامو الثقافي المستقل الذي يشغله مثقفون ومبدعون مستقلون قادرون على انتاج الجديد والمختلف والاصيل. فاذا احلنا نشاط هؤلاء الى الدائرة الشرطية، نكون قد وصلنا الى لحظة التدمير الذاتي.
هل ننادي بعدم اخضاع النشاط الثقافي لاي نوع من «التنظيم» كلا ولكن هذا التنظيم بما في ذلك الاضطرار احيانا الى الانسجام مع السياسي، ينبغي ان تكون له مرجعية ثقافية لا امنية.
-فهناك اولا، وزارة الثقافة التي لابد من تفعيل دورها، وتزويدها بالكادرات المؤهلة والكافية وذات الصلاحيات، لادارة العلاقات المتشعبة مع المثقفين والهيئات الثقافية.
-وهناك ثانيا، اولئك الكبار من المثقفين الاردنيين الذين يمكن ان يلعبوا-وهم يلعبون بالفعل-دورا ميدانيا في تنظيم العملية الثقافية في اطر مستقلة ولكن منضبطة ذاتيا.
-وهناك ثالثا، الهيئات الثقافية القائمة ولمعظمها سياسات وادارات مسؤولة.
* * *
… فلماذا لم يتصل السيد رئيس الوزراء بوزيره للثقافة لابلاغه رغبته بتأجيل ندوة رابطة الكتاب الاردنيين حول الصهيونية والمؤرخين المراجعين… فيقوم الاستاذ محمود الكايد، بما عرف عنه من سياسة وكياسة، بمعالجة الامر بهدوء وحكمة!! سؤال يلح علي، ويجعلني اعيد النظر فيما اذا كنا بالفعل قد خرجنا من المرحلة الامنية؟ بل اذا ما كان من الافضل والاوفر، حل وزارة الثقافة واحالة اختصاصاتها الى مديرية الامن العام؟ 0

Posted in Uncategorized.