عن الكيان الوظيفي والدولة الوطنية والأردن… ماذا يقول العلم والواقع؟

كتب السيد فارس نجم مقالاً في «الأخبار» (25 شباط 2015) تحت عنوان «الأردن: كيان وظيفي أم دولة وطنية؟»، ولكنه لم يناقش هذا السؤال، بل انخرط في الحديث عن سياسات النظام التدخلية في سوريا، وزيف معركته مع الإرهاب، وتصاعد الظاهرة التكفيرية في الأردن، ثم ختم بتحديد برنامج عمل الوطنيين الأردنيين في المرحلة المقبلة!
من المؤسف الاستمرار في استسهال إطلاق التوصيفات على أوطان ودول بخفة ليس لها سند علمي أو واقعي. فهذه التوصيف: «كيان وظيفي» ليس له أي معنى. وهو نوع من استخدام مصطلحات تبدو علمية من أجل الشتيمة. ما معنى كيان وظيفي؟ ينتمي المصطلح إلى أدبيات مدرسة في علم الاجتماع، ترى أن لكل بنية اجتماعية ـ اقتصادية ـ سياسية ـ ثقافية، وظيفة تحكم معنى وجود ووظائف وسلوك عناصرها، بما يؤدي إلى أداء وظيفة البنية. بهذا التحديد لا يوجد كيان ـ بنية، سواء أكان الأمر متعلقاً بعشيرة أم بمؤسسة أم بدولة، ليس وظيفياً. وعلى هذا، فليس هناك من معنى لتوصيف دولة ما، أياً كانت، بأنها وظيفية، ما دامت كل دولة وظيفية. وصف الدولة الأردنية بأنها «كيان وظيفي» لا يعدو كونه شتيمة فارغة المعنى. وهي شتيمة جرى استخدامها، من دون تمحيص، على سبيل الردح.
مصطلح الوطنية، أيضاً، يُستَخدَم من دون تدقيق. وهو يكتسب معناه حسب السياق؛ فالوطنية شعور بحب الوطن والاستعداد النفسي لخدمته وتقديم التضحيات من أجله، والوطنية برنامج سياسي يستجيب لمصالح الوطن العليا. والوطنية هي، أيضاً، دعوة إلى الاتحاد الذي يغلب التناقض الرئيسي مع الخارج على التناقضات الداخلية، والوطنية هي حركة معادية للاستعمار والنفوذ الأجنبيين. والدولة الوطنية هي الدولة التي تتطابق بنيتها، كلياً أو جزئياً، مع عناصر التشكيلة المحلية واحتياجاتها. وهي تدخل في أزمة حين لا تعود كذلك. والوطنية هي ضرب من أيديولوجيا لاحمة لمجتمع ودولة. الدولة الوطنية، في أبسط أشكالها، هي دولة محلية قادرة على لحم وإدارة مجتمع محلي، بأدوات محلية، وبقدرات محلية. هكذا، يمكننا القول إن كل دولة محلية هي دولة وطنية، بما في ذلك دولة قطر. قد تكون دولة وطنية هشة أو ناقصة، وفقاً لعاملين: مدى حاجتها إلى المداخلات الخارجية، ومدى صلابة الرابطة الوطنية الاجتماعية، إزاء الانشقاقات الطولية (الطائفية، المذهبية، الجهوية، الاتنية)، وليس، بالطبع، إزاء الانشقاقات الأفقية الاجتماعية التي طالما عززت الدولة الوطنية. الدولة الأردنية، في المنحى الأول، دولة وطنية ناقصة. وهذا ينطبق على كثير من الدول الوطنية. ولكنها تستند، في المنحى الثاني، إلى عصبية محلية لاحمة غير متشققة طائفياً أو مذهبياً أو اتنياً، وتستوعب الجماعة الوطنية الأردنية كلها.
على المستوى المحلي، حققت الدولة الأردنية، بسبب عصبيتها الداخلية اللاحمة، إنجازات تفوق المتوقع منها؛ فالإدارة الأردنية هي من أفضل وأحدث الإدارات في العالم العربي. وأكثر من ذلك، فإن العناصر البيروقراطية من المستوى الصغير والمتوسط، هي الأقل فساداً؛ فالفساد في الأردن ينحصر في الطبقة الحاكمة والفئات العليا من البيروقراطية. ويعود ذلك إلى اشتغال منظومة القيم المحلية التي لا تلتزم بها الطبقة الحاكمة.
أنجزت الجماعة الوطنية الأردنية، الخارجة من عزلة بدوية ـ فلاحية طويلة، نجاحات جدية في التحديث والتعليم والخبرات وتكوين النخب في مجالات عديدة، كالإدارة والطب والهندسة والمعلوماتية والمهنية العسكرية إلخ، كذلك في تطوير البنى التحتية والتخطيط البلدي الذي قضى على العشوائيات، والتأمينات الاجتماعية والخدمات العامة.
الجيش العربي الأردني مؤسسة وطنية حديثة، لعبت أدواراً تحديثية، اجتماعياً وثقافياً، في سياق لحم العشائر الأردنية، في بنية وطنية، ونشر التعليم والخدمات في البوادي والأرياف وتوطين البدو والدفع نحو قيم المواطنة وبناء الكادرات في عدة مجالات حديثة. الجيش العربي جزء من حياة الجماعة الوطنية الأردنية، ويحظى باحترامها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
في عهد الملك حسين، وبغض النظر عن السياسات الخارجية له، كان النظام الأردني، على المستوى المحلي، يتبع دينامية الاستجابة الفعالة لاحتياجات المجتمع والدولة. وكان تقسيم العمل واضحاً بين فعالية القصر في الخارج، وفعالية النخب الوطنية في الداخل. وقد أسهم ذلك في تطوير البلد، وأدى، بالفعل، إلى التماسك الداخلي. لكن التطورات الانقلابية الحاصلة في عهد الملك عبدالله الثاني، نحو النيوليبرالية، استبدلت النخب الكمبرادورية بالنخب الوطنية، وأدت إلى إفقار وتهميش أقسام واسعة من أهالي المحافظات. هنا استعادت العشائرية قوتها كإطار حمائي يعوض عن غياب الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة. وهذا هو الأساس لنشوء حركة المعارضة المتنامية الراديكالية في الريف والبادية. وأبرز عناصر هذه المعارضة هم متقاعدو القوات المسلحة الذين لحم الجيش وعيهم الوطني والاجتماعي.
أدركت العشائر والحركة الوطنية الأردنية، مبكراً، الأخطار التي تحيق بالدولة الأردنية، جراء الحرب الامبريالية الرجعية الوهابية التي شُنّت على سوريا، اعتباراً من 2011. وبالعودة إلى التأريخ الزمني للتطورات، فسوف نلاحظ أن الوطنيين الأردنيين كانوا الأسبق، بين نظرائهم العرب، في الوقوف إلى جانب الدولة السورية والرئيس بشار الأسد. وحين كانت الليبرالية تعمي عيون الكثيرين من اليساريين والقوميين في العالم العربي عمّا يدور في سوريا من حرب عدوانية على البلد والدولة والشعب، كانت العشائر والقوى الوطنية والقومية واليسارية الأردنية تصطدم مع الإخوان المسلمين، وتمارس ضغوطاً مستمرة على النظام للجم توجهه للتدخل في سوريا. وقد نتج من هذه المعادلة أكثر ما يمكن من كبح جماح النظام، واضطراره إلى العمل ضد سوريا في السر، وفي تعارض مع الرأي العام. وقد ظنّ النظام أنه يستطيع استغلال أجواء التعاطف الوطني بسبب جريمة حرق الطيار الشهيد معاذ الكساسبة، لخلق مناخ مؤيد لتصعيد وإعلان تدخله في سوريا، إلا أنه فشل بسبب المعارضة الداخلية، العلنية من قبل القوى السياسية، والضمنية من قبل المؤسسة العسكرية التي كانت، ولا تزال، تتحفظ على التدخل في سوريا.
قضية سوريا، بالنسبة إلى الأردن، هي قضية داخلية في الدرجة الأولى. فإذا سقطت الدولة السورية، لا سمح الله، سوف تسقط الدولة الأردنية في اليوم التالي في الفوضى، وتتنامى على أرضها قوة الإخوان المسلمين والتنظيمات التكفيرية الإرهابية، وتدخل البلاد في حالة تصعب معها مقاومة إنشاء الدولة البديلة. معاداة الدولة السورية والتدخل الأمني ضدها هما بمثابة انتحار للدولة الأردنية. إنها قضية وجود للوطنيين الأردنيين الذين ناضلوا، وما زالوا يناضلون، من أجل سلامة سوريا والأردن، ولا يحتاجون إلى دروس من أحد.
لم يعد مقبولاً، باسم الهجوم على سياسات النظام، التطاول على الأردن، وطناً وشعباً ودولة، أو توجيه الإهانات والشتائم للبلد والعشائر والجيش. الوطنيون الأردنيون لا يدافعون عن نظام هم في صراع معه، ولكنهم لا يقبلون، كونهم وطنيين أولاً، بالتعرض لوطنهم.

Posted in Uncategorized.