حق العودة… لا مجرّد رفض التوطين!

*
ظهر السيد فريد سلمان على شاشة «أو تي في»، وقدّم، بكلمة قاطعة، حلاً بسيطاً وفعالاً، كما يرى، لمشكلة فلسطينيي لبنان: «أرسلوهم إلى الأردن»!
فيديو المقابلة الذي جرى تداوله على نطاق واسع للتعريض بالتيار الوطني الحر، وتالياً بحزب الله، أحرج المؤيدين الأردنيين للمعارضة اللبنانية، الذين أصبحوا مطالبين، شعبياً، بالاعتذار عن تأييد صعب كلّفهم الكثير.
فريد سلمان ليس ضيفاً عادياً على تلفزيون التيار. إنه مقرب من العونيين. ومن المرجح أن «أفكاره» التي طرحها على الملأ، بعجرفة لا تعرف حدوداً، تصب في آذان صاغية داخل التيار نفسه. اتخذ سلمان سمة العالِم الواثق، وكرّر من غير أن يرفّ له جفن، الطروحات الصهيونية عن الأردن، بل كررها حرفياً مثلما جاءت في كتاب بنيامين نتنياهو «مكان تحت الشمس»، ومفادها أن «الأردن هو جزء من فلسطين، اقتطعه الإنكليز سنة 1920 لإقامة دولة هاشمية. ووجود هذه الدولة مذاك هو الذي يعرقل السلام في الشرق الأوسط. وبإزالة الدولة الأردنية عن الخريطة السياسية، وإقامة دولة فلسطينية محلها، نصل إلى الحل الطبيعي للقضية الفلسطينية».
ويضيف سلمان من عندياته: «إنني أضحك عندما يقول شخص إنني أردني»، ذلك أنه في الحقيقة فلسطيني من دون أن يدري! سلمان إذاً «يضحك» على ثلاثة ملايين ونصف مليون من البشر يعتقدون أنهم أردنيون. إنّه «يضحك» على «غباء» شعب كامل لا يعرف حقيقة هويته! ولكن ماذا إذا كان هؤلاء مصرّين على كونهم أردنيين، ومستعدين للقتال دفاعاً عن وطنهم ودولتهم وهويتهم؟ كيف سيواجه سلمان ونتنياهو والكنيست الإسرائيلي هذا الإصرار؟ أبالقوة؟ أم بغسيل الأدمغة الجماعي؟
تبنّي سلمان الطروحات الصهيونية عن الأردن له هدف واضح: الأردن كبير بما يكفي لاستيعاب ثلاثين مليوناً! وهذا ممكن بشرط أن يأتوا معهم بالمياه! فليذهب فلسطينيو لبنان إلى بلدهم ذاك. في لبنان، حسب سلمان، لا مشكلة توطين لبضع مئات الآلاف من لاجئين وطنهم ــــ الأردن الفلسطيني ــــ قريب وواسع. هذه المشكلة، كما يقول سلمان، اخترعها السنّة لزيادة عديدهم الطائفي في البلد.
غير أن السنية السياسية لا تقل عنصرية إزاء الفلسطينيين عن سلمان. فقد كان رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري يسعى، من دون تنظيرات كالتي استعارها سلمان من أرشيف الصهيونية، إلى «تصدير» مئتي ألف فلسطيني من لبنان إلى الأردن. وكان يلح على ذلك جاداً ومازحاً، مستخدماً صلاته الوثيقة بالنظام الأردني لتمرير الفكرة.
حدّثني وزير أردني سابق أن الحريري قال له على هامش اجتماع: «ما بتأخذولكم مية ميتين ألف فلسطيني». وردّ عليه الوزير: «نعم، بشرط أن تضمن لنا بأنهم لن يتناسلوا»… نقاش عنصري بالكامل، يبرئ السنية السياسية من تهمة الخروج على الإجماع اللبناني.
المسؤولون الأردنيون يفكّرون، بدورهم، بترحيل مشكلة اللاجئين إلى مكان ثالث. ففي أوساط نخبة الحكم خطط للسعي نحو توطين قسم من فلسطينيي الأردن في السعودية ودول الخليج. الفلسطينيون الذين سيحصلون على هذه الفرصة سيكونون سعداء بهذا الحل. و«لكن هل سيقبل الخليجيون بذلك؟». سألتُ مسؤولاً أردنياً كبيراً، فأجاب أنها مشكلة العرب وليست مشكلتنا فقط. «ولكنها مشكلة إسرائيل» قلتُ، فابتسم إشفاقاً على مثقف حالم. حالم بالطبع، لأن الولايات المتحدة يمكنها أن تضغط على لبنان والأردن والسعودية والكويت… ولكن ليس على إسرائيل. وكل نظام عربي يريد ترحيل المشكلة إلى سواه، ما دام لا يملك شيئاً سوى العطف الأميركي.
مآل الحل المطروح أميركياً وعربياً، إذاً، هو تأمين التوسع والأمن لإسرائيل، وإطلاق سلسلة لا نهاية لها من العداوات والصراعات الأهلية العربية: فبالإضافة إلى الصراع الفلسطيني ــــ الفلسطيني على السلطة تحت الاحتلال، سيكون هناك صراع فلسطيني ــــ أردني، ولبناني ــــ أردني، وأردني ــــ خليجي إلى آخر ما تصل إليه لعبة الأواني المستطرقة الديموغرافية. وسيكون على اللاجئين الفلسطينيين ومضيفيهم العرب، الحاليين والمحتملين، أن يدفعوا ثمناً باهظاً جداً جراء الاستسلام أمام الرفض الإسرائيلي لحق العودة.
وعلى القوى الوطنية التي تتبنّى شعار رفض التوطين في لبنان والأردن، أن تدرك أن هذا الشعار، وحده، ليس فقط شعاراً عنصرياً، بل أيضاً شعار زائف سيؤدي إلى المزيد من المشكلات والتعقيدات والصراعات العربية. أما الشعار الصحيح والواقعي، فهو الشعار الذي يوحّد الفلسطينيين ومضيفيهم العرب ضد العدو المشترك، أعني شعار «حق العودة».
والآن، ربما اتضحت الصورة بما يكفي لكي يميّز الفلسطينيون الصديق من العدو. فالعنصري هو مَن يتعامل معهم كفائض ديموغرافي بيولوجي قابل للتوطين والتوزيع والتجيير، وليس مَن يدعوهم إلى التمسك بهويتهم الوطنية ووطنهم، ويستنهضهم لأخوّة الكفاح من أجل العودة.
ليست القضية الفلسطينية هي قضية إقامة دولة وطنية في الضفة والقطاع، حتى لو كانت كاملة الأوصاف… فما بالك بكانتونات ــــ هذه «الدولة»، بغض النظر عن شكلها؛ هي مشروع نخب منظمة التحرير بيمينها و«يسارها» ــــ والآن انضمت إليها نخب «حماس»، ولو من موقع صراعي. المشروع، بغض النظر عن واقعيته، سلطوي وفئوي، من شأنه إذا نجح على سبيل الفرض، أن يحل مشكلة تلك النخب، ولا يحل مشكلة الشعب الفلسطيني الناشئة أساساً عن تدمير مجتمع كامل وتشتيته منذ عام 1948. وليس هنالك بديل واقعي عن إعادة تأسيس هذا المجتمع على أرضه الوطنية. وما دام ذلك غير ممكن في ظل جغرافيا الضفة وغزة ومواردهما، حتى في حدود الـ67، ولا يتحقق من دون التواصل الاجتماعي ــــ السياسي ــــ الثقافي بين الفلسطينيين (الذين سيظلون مقسمين بين إسرائيل والدولة الفلسطينية والشتات)، فإن المهمة التاريخية الأولى على جدول أعمال الحركة الوطنية الفلسطينية هي تأمين عودة الفلسطينيين إلى بلادهم، وتأمين وضع قانوني وسياسي موحد وتفاعلي للشعب الفلسطيني على أرضه. ويمكننا أن نتصوّر، واقعياً، نهوضاً وطنياً فلسطينياً يعيد توحيد الكتلة التاريخية الفلسطينية في سياق نضالي، ويحشّد العرب وشعوب العالم وراء هذا الهدف، وربط السلام مع إسرائيل بتنفيذه.
وأختم بالتوقف عند مفهوم الكتلة التاريخية الفلسطينية، لأهميته في التأسيس لنهوض وطني جديد يتجاوز مآسي الفشل المكلفة في العمل الوطني الفلسطيني. نحن نتحدث هنا عن كتلة مكوّنة من فئات وقوى وفعاليات وشخصيات لها مصلحة مشتركة في إعادة تأسيس المجتمع الفلسطيني، وهي مهمة غير ممكنة إلا على الأرض الفلسطينية، وتحديد هذه المكوّنات يستلزم عملاً بحثياً ونضالياً شاقاً، إلا أننا نجزم مسبقاً، بأن هذه الكتلة تستثني الفئات الكمبرادورية والسلطوية والنخب المرتبطة بالنظام العربي.
من جهة أخرى، فإن ظروف الشتات أدت إلى تفاعلات لم يعد معها مئات الآلاف من الأفراد الفلسطينيين في المنافي مرتبطين بقضية الشعب الفلسطيني. ونحن لا نخوّن هذه الخيارات الفردية، بل نطالب هؤلاء الأفراد بالمضي إلى حال سبيلهم، والتوقف عن إعاقة تكوين الوعي التاريخي الفلسطيني لتبرير شقاء وعيهم الذاتي. وفي مثال حي، وصلتني رسالة من شاب فلسطيني يحمل الجنسية الأردنية، يقول فيها: «أنا أردني. ولدت في عمان، وأحبها، ولا أعرف فلسطين ولا أريد العودة إليها». وأجيبه هنا، بأنني أتفهم موقفك ولا أخوّنك. ولكنني أختلف معك في نقطة واحدة: لا تجعل من موقفك الشخصي هذا أساساً للتعميم السياسي. ليس كل فلسطيني فلسطينياً.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.