بهدوء | ماكينة القتل في العراق… كفى صمتاً

حين تصحو المحافظات العراقية، على سلسلة متزامنة من انفجارات تستهدف القتل الجماعي للمدنيين، فلا نتوقف ونحزن ونتحسّب ونفكّر، نكون قد بلغنا الحضيض الحضاري والأخلاقي والإنساني. يتحوّل شهداء العراق إلى أرقام، وتمّحي الذوات البشرية، بكل ما تحمله من ملامح وصفات وحيوية وعلاقات وعواطف وآمال، إلى جثامين لا تأخذ حتى حقها في الوداع والجنائز اللائقة والأسى؛ ذلك أن ماكينة القتل تعمل بلا انقطاع، ولا تترك مسافة الزمن الكافية للتفجّع على حبيب أو صديق.
هناك ما هو أفدح من جرائم الإرهابيين المستمرة ضد الشعب العراقي، هو تحوّلها إلى خبر ثانوي معتاد، وسط صمت الحكومات والأحزاب والجمعيات والمثقفين، إزاءها؛ ذلك الصمت المخزي الذي يعرّي بشاعة المشهد القائم على القبول بالإرهاب والتواطؤ معه.
لا ينتعش الإرهاب، فقط، بالدعم المالي والتسليحي؛ فقبل ذلك وبعد، هناك الدعم السياسي والفكري والديني والتعاطف الضمني والسكوت، أي كل عناصر البيئة الملائمة للنشاط الإرهابي. وقد آن الأوان، لكي نحلّل هذه البيئة إلى عناصرها الفعلية، وفضحها، والشروع في بناء خطاب مضاد للإرهاب والإرهابيين، بغض النظر عن الخلافات والصراعات السياسية.
استخدام الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية منهج اتبعته الاستراتيجية الأميركية دائماً، وخصوصا الاغتيالات وتنظيم الجماعات المسلحة اليمينية ضد حركات التحرر الوطني والأنظمة المتمردة، وكبديل ـــ أقلّ كلفة ـــ للغزو العسكري في مرحلة الحرب الباردة، إلا أن هذا المنهج بقي في حدود مضبوطة حتى التقت السياسة الأميركية بالإرهابيين الإسلاميين في الجهاد ضد الحكومة الشيوعية والسوفييت في أفغانستان، في نهاية الثمانينيات. هنا، تجاوز الإرهاب كلّ قيد ميداني أو أخلاقي، ودرج استخدام الانتحاريين، والمفخخات، وكل وسائل القتل الجماعي للمدنيين على أساس نزع القداسة عن الحياة البشرية، واحتكار المقدّس الديني والطائفي والمذهبي، في أيديولوجية الجهاد.
إرهابيو ما قبل السلفية المقاتلة، كانوا، على العموم، مستأجرين ومرتزقة، ولم تكن، هناك، دوافع سياسية أو عقدية، تدفعهم إلى الانتحار في سبيل القضية، إنما، مع المجاهدين المتطوعين في سبيل الله وجنّته، يتحوّل الإرهابي نفسه إلى آلة قتل. وعندما يتم الاقتراب النفسي والعاطفي من حدود قتل النفس، والشبق الذاتي للانتحار، لا يعود قتل الآخرين، بمن فيهم المدنيون المسالمون، مسألة تستحق التوقف عندها؛ فالجهاد يبرر نفسه بنفسه.
لا ننكر أن الجهاد ـــ وخصوصا الانتحاري منه ـــ قد حظي بتعاطف مختلف الأوساط، حينما مورس ضد العدو الإسرائيلي ـــ الأميركي، وخصوصا في فلسطين والعراق المحتلّ. وهذا اللبس هو المسؤول الأول عن القبول العام بفكرة الجهاد الانتحاري المنفلت من الانضباط الأخلاقي المتشدد الذي طالما ميّز الكفاح المسلّح، الوطني والثوري، حين كان على المقاتل، تجنّب المدنيين والاحتراس من ارتكاب الجرائم وتوخّي الاقتصاد في استخدام السلاح.
لطالما هلّلنا للعمليات الانتحارية التي قامت بها حماس ضد مدنيين إسرائيليين، ولم نكن لنرى أن هذا النوع من القتال يفيد الصهاينة ويُظهرهم كضحايا، بأكثر مما يفيد الفلسطينيين وقضيتهم. وما كان أحد ليجرؤ على القول إن الكفاح المسلح ـــ وهو كان ولا يزال وسيلة ضرورية للنضال الفلسطيني ـــ ينبغي أن يكون نبيلا بقدر نبل القضية الفلسطينية، وبالتالي، منضبطا بالقتال ضد الأهداف العسكرية، وفي سياق تحقيق أهداف برنامجية للتحرير، وليس في سياق التنافس الداخلي بين الفصائل. وفي العراق، تسامحنا حتى مع الإرهاب الموجه ضد المدنيين الشيعة ومراكز التجنيد والإدارة الخ طالما أنه كان يحدث تحت الاحتلال الأميركي، ويمنع استقراره. لكن، بالنتيجة، تحول هذا الأسلوب الجهادي إلى حرب أهلية، منع المقاومة العراقية من حصد الثمار السياسية للتضحيات، وعلى رأسها وحدة المجتمع ونهضته اللاحقة، كما هو الحال المعتاد في البلدان المتحررة.
حين حققت حماس أهدافها في مواجهة فتح، والتغلّب عليها انتخابياً، توقفت عن العمليات الانتحارية، بينما استمر الجهاد الانتحاري في العراق لمنع استقرار «الحكومة الشيعية».
هناك مركز سياسي أمني هو مصدر الدعم السياسي والفقهي والمالي للإرهابيين في العراق، يتمثّل، رئيسياً، في السعودية التي تتبنى «المشروع السنّي» في مواجهة «المشروع الشيعي». وبطبيعة الحال، فإن أتباع الرياض حتى من الليبراليين العرب، يتخذون الموقف المذهبي الإرهابي نفسه، ويصمتون عن ماكينة القتل في العراق، الماكينة نفسها التي شُغّلت في سوريا منذ سنتين، والتي تحظى بما هو أكثر من الصمت؛ إنها تحظى بالتعاطف والتشجيع واسباغ ثوب المعارضة على الإرهابيين، واعتبارهم مقاتلين في سبيل «الحرية والديموقراطية»، وفي أحسن الأحوال، المساواة بينهم وبين الدولة السورية، وكأنهما على المستوى نفسه من الشرعية، أي مجرد «طَرَفي نزاع»!

Posted in Uncategorized.