بهدوء | «فتوحات» القرن الـ 21

«… حاجّهْ نضحك ع حالنا و عَ معتقداتنا… هيدي شريعة.. وهيدا تاريخ يعيد نفسه.. يعيد نفسه.. رجاء انتبه عَ يعيد نفسه، بكلّ دقّة وحرفيّة. وكلّ (فتوحات) اسلامية لبلاد الشّام و أنتم بألف خير».
هكذا، كتب قارئ سوري، في تعليق ذكي صريح على مقالي «مسيحيو الرقة، الصاغرون». هو يعتقد أن «داعش» تكرّر ما قام به الخليفة عمر بن الخطاب الذي فرض الجزية على مسيحيي فلسطين، رغم أنهم استقبلوه بالأناشيد!
التاريخ يعيد نفسه! غزاة الصحراء الذين تمكنوا من غزو العراق والشام، واخضاعهما، قبل 14 قرناً، يكرّرون، اليوم، غزو المشرق، مستخدمين الخطاب الديني نفسه. حسناً، إنما يجدر الانتباه إلى ما يلي:
أولا، أن ذلك الخطاب الديني نفسه، تكوّن في الجزيرة البدوية/ البدائية، كخلاصة للخطابات الدينية المتشكلة في المراكز الحضارية المشرقية، لكنه شُحنَ فيها، خصوصا لدى قيام الدولة الدينية في المدينة، بالروح اليهودية الإقصائية ــــ العنفيّة، وبروح السياسة القَبلية، وأصبح، بالتالي، أيديولوجيا ملائمة للغزاة.
ثانيا، الغزو القبلي الجزيري للمشرق، حدث في إطار عربي؛ (ذلك أن المشرق عربيٌ قبل الإسلام، بل أن اللغة العربية التي نعرفها لم تتشكّل في الجزيرة، وإنما في بادية الشام). وقد لعب هذا الإطار المشترك للبلاد المتحضرة المفتوحة وجحافل الغزاة القبليين، دورين، أحدهما سلبي، ويتمثل في تراخي مقاومة المتحضرين، وثانيهما إيجابي، ويتمثّل في استيعاب الغزوة، سياسياً وحضارياً ودينياً؛ فجرى التحالف ــــ في الشام ــــ مع البيت الأموي لإنشاء دولة مَدنية لا دينية، ومن ثم استعادة الاسلام، أي اعادة تملّكه؛ اعتماد الروح والنصوص المكية منه، وتطويره، وتحديثه، واخضاعه للتحضر والتعددية، بينما أبدع العراقيون اسلاماً عراقياً يستعيد الروح الدينية المشرقية المتراكمة عبر العصور، في التشيّع. ومسيحه الحسين بن علي. وهو شخصية مشرقية لا تمت بصلة إلى ثقافة القبائل وإقصائية اليهود. ومن التشيّع، تناسلت التعددية المذهبية اللاحقة، وما بقي منها من علويين واسماعيليين ودروز الخ. ولا ننس، بالطبع، حركة إعادة التملّك المشرقي العظيمة للإسلام، المتمثلة بالتصوّف، أو الأيديولوجيا العلمانية الواقعية التي أنتجها المجتمع العراقي الوسيطي المتحضر، وظلالها واضحة في فقه أبو حنيفة النعمان، إمام الثورتين.
ثالثاً، الغزوة الثانية ضد حضارة المشرق وتعدديتها، كانت صليبية أوروبية ومغولية آسيوية، أوجدتا المناخ لنشوء حملة تكفيرية إقصائية ضد التسنّن الأموي والشيعة وفرقها والمسيحيين، في ظل استعادة الخطاب الديني الصحراوي نفسه على يدي ابن تيميه.
رابعا، الغزوة القبلية الصحراوية الثانية، المشبعة بالروح اليهودية هي التي نعيش ذروتها اليوم في سوريا على أيدي التنظيمات الإرهابية من «جيش حر» و«جبهة اسلامية» و«نصرة» و«داعش»، ولدت في نجد بالتحالف بين السعوديين والوهابيين، وبعدما توقفت غزواتها العسكرية على المشرق، العام 1924، عاد النفط ليسعفها منذ السبعينيات، فابتدأت بالغزو الإعلامي والسياسي والديني، على المستويين المشرقي والعربي، واستطاعت أن تستعيد الهيمنة على وعي أقسام واسعة من الجمهور السنّي، وهيّأت الأرضية الخصبة لولادة وتجذّر التيارات التكفيرية الإرهابية، بكلّ اتجاهاتها. وها إنّ سوريا والعراق ولبنان ــــ وغداً الأردن وفلسطين ــــ تدفع الثمن الباهظ لذلك الانقلاب الأسود.
خامسا، على هذا ــــ وغيره كثيرٌ لا مجال هنا لتعداده ــــ لسنا، في النهاية، إزاء اسلام واحد، وإنما بصدد لوحة اسلامية ــــ ومسيحية ـــــ تعددية غنية، أنتجها التاريخ الاجتماعي للمشرق العربي؛ وفيها ألوانٌ زاهية كالإسلام الأمويّ الدمشقي والحنفيّ البغدادي والصوفيّ والحسينيّ والعلويّ والفلاحي ــــ الوثني ـــــ المسيحي ــــ الإسلامي المتمثّل في ديانة الخضر المشتركة الخ.
سادساً، وكل عناصر هذه اللوحة تجد لها في النص القرآني سندا، تأخذ بعضه وتؤوّل بعضه وتنسخ بعضه، انطلاقاً من واقعها الاجتماعي الثقافي الفعلي؛ بالمقابل، فإن التيارات الأصولية تتجاهل معظمه الأساسي، وتلح على قليله الخاص المرتبط بصراعات تأسيس دولة المدينة. وتريد تلك التيارات إعادة تأسيسها، متجاهلة 14 قرناً بتراثها وتحولاتها.
غير أن التكرار الحالي، يشكل كارثة؛ فلأنه مستحيل واقعياً يتحول إلى إرهاب مجرد، وبما أنه يستخدم تقنية القتل الحديثة، فهو أقدر على الفتك بالبشر، وترويعهم. أما إمكانية تأسيس الدولة الدينية، فهي تقتصر على هذه البقعة أو تلك من بلادنا، في ظل العدوان الخارجي والفلتان الأمني وانتشار الفوضى والجريمة؛ فهي، إذاً، ليست دولة مشروع، كما كان الحال مع دولة المدينة، على قبليتها وعنفيتها، وإنما هي مربع أمني لعصابة مجرمين مفصومين نفسياً، ويستخدمون الخطاب الديني لدولة المدينة التاريخية، لتبرير انتهاكهم للحرمات وتسلّطهم على المجتمعات المحلية. ونلاحظ أنهم يتمكنون من ذلك، فقط من خلال التحالف الواقعي مع العدو الامبريالي الصهيوني. والمضحك المبكي أن ذلك جرى ويجري تحت شعار الثورة على الاستبداد!

Posted in Uncategorized.