بهدوء | تحالف الشعب والجيش: الاحتمالات المفتوحة

الجيش المصري الحديث هو واحد من أقدم الجيوش الوطنية في العالم؛ إذ يعود تأسيسه إلى مطلع القرن التاسع عشر على يد محمد علي الذي نظّمه على الطراز الأوروبي، وألحق به ورش الصناعة الحربية، وأعده للعب دور إقليمي كبير شغل معظم النصف الأول من ذلك القرن، حتى كسرته الدول الاستعمارية، وحجّمته قوة ودورا. كُتب الكثير عن هذه التجربة التاريخية الفذّة، لكننا نذكّر، هنا، بأهم عناصرها، أعني تجنيد أبناء الفلاحين.
أول ثورة شهدتها مصر المعاصرة، الثورة العرابية (1878 ــ 1882)، كانت مزيجا من انتفاضة عسكرية ــ مدنية، طالبت بزيادة عديد القوات المسلحة ــ التي كانت قد تقلصت تحت النفوذ الغربي ــ وكذلك، بإنشاء مجلس نيابي. وهكذا، انطلقت الحركة الوطنية الديموقراطية المصرية، بجناحين. وقد كُسرا بالاحتلال البريطاني لمصر.
معاهدة 1936 التي وقعها حزب الوفد مع المحتلين البريطانيين، رغم كل مساوئها، قلّصت عديد وانتشار قوات الاحتلال في مصر، وسمحت بالبدء بتعزيز الجيش المصري، والتوسع في تجنيد أبناء الفلاحين والفئات المتوسطة في صفوفه. وبذلك، تشكلت عناصر حركة الضباط الأحرار التي أطاحت الملكية والاحتلال، وفتحت، مع الرئيس جمال عبدالناصر، وبالتحالف مع السوفيات، الباب، أمام إعادة بناء المؤسسة العسكرية المصرية وصناعاتها الحربية ودورها الإقليمي في مواجهة الصهيونية والرجعية.
وإذا كان الجيش المصري قد ضُرب في الـ1967، فقد خاض واحدة من أضخم حروب الاستنزاف في العصر، وكلّلها بعبور قناة السويس، وإلحاق هزيمة جزئية بالعدو الإسرائيلي المدعوم أميركيا. وكانت هذه آخر حروبه، بالنظر إلى نجاح انقلاب أنور السادات الرجعي على الدولة الوطنية التنموية لصالح الدولة الكمبرادورية والسلام مع تل أبيب.
أهمّ ما في تجربة الجيش المصري في الحقبة الناصرية، يكمن في دوره الثوري التنموي، وتوظيف قدرات القوات المسلحة التنظيمية في إحداث التحولات الاقتصادية الاجتماعية التقدمية.
كل ذلك بقي مكتوبا في بنى العسكرية المصرية وطموحاتها، سواء أفي المجال المؤسسي أم المجال الاقتصادي أم المجال الدفاعي. وعلى رغم نظام الامتيازات الممنوح للضباط المصريين لضمان ولائهم السياسي، وكذلك، علاقة الجيش المصري الراسخة مع نظيره الأميركي منذ مطلع الثمانينات، إلا أنه يُسَجّل للجيش المصري، الحفاظ على مؤسسيته المهنية وانضباطه وعقيدته الوطنية وتدخله الاقتصادي ــ وخصوصا في المجال الصناعي ــ وحرصه على تطوير قدراته العسكرية.
يُعَدّ الجيش المصري، اليوم، واحدا من أقوى الجيوش في الشرق الأوسط، يتفوق، مثلا، على الجيش التركي، وينافس الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك، في مجال الطيران الحربي. ومن المفارقات أنه بينما كان الوضع الإداري والاقتصادي والاجتماعي لمصر، يتردى في العقد الأول من قرننا هذا، شهد الجيش المصري طفرة نوعية في مستوى التنظيم والتدريب وقوة السلاح.
الطروحات الليبرالية التي غزت العقل العربي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وانتشرت على نطاق واسع، لاحقا، حتى في صفوف اليساريين والقوميين، عممت أسوأ التصورات المعادية عن الجيوش الوطنية في العالم العربي، باعتبارها سندا للديكتاتوريات، وذات كلفة ضخمة غير مبررة، ومنافسا اقتصاديا يعتمد على القوة. ومن الواضح أن هذه التصورات التي تتزيّن بالأفكار المدنية والديموقراطية الزائفة، تنسجم، تماما، مع النظرية النيوليبرالية الداعية إلى خفض القطاع العام المدني والعسكري، وتخدم مصالح كمبرادورية السوق الحرة من كل تدخل مؤسسي عام، وتتلاقى، أخيرا، مع مصلحة الإسلام السياسي الذي كان دائما خارج الجيوش، ومعاديا لها، بل ولطالما اصطدم جناحه الإرهابي بها.
نشرت شبكة الاتجاهات والمصالح الآنفة الذكر، نظرة عدمية نحو الجيوش الوطنية؛ فرأينا الاحتلال الأميركي للعراق يحل واحدا من أفضل الجيوش في العالم، الجيش العراقي، برضاء كامل من قوى المعارضة الليبرالية والإسلامية العراقية. ويجد العراق المستقل نفسه اليوم في وضع تنظيمي وتنموي صعب للغاية، بسبب خسارته لمؤسسته العسكرية الوطنية. والحرب على الجيش السوري، منذ 28 شهرا، باسم «الحرية» و«الإسلام»، تهدف إلى تجريد سوريا من جيشها الوطني، وتعريض البلد للتقسيم والفشل.
في أعقاب انتفاضة 25 يناير 2011، أثبت الجيش المصري أنه العمود الأساسي للدولة المصرية، وليس أداة للنظام الحاكم. وفي الفترة الانتقالية التي تلت الانتفاضة، انجرت القوى الوطنية وجماهيرها وراء الليبراليين والإسلاميين بالمناداة بسقوط حكم العسكر. وكان ذلك من بين العوامل التي دفعت بقيام نظام الإخوان المسلمين الذين لم يخلصوا، لحظة واحدة، للمؤسسة العسكرية المصرية. وكان لا بد من التجربة المرة، لكي يدرك المصريون أنهم بين خيارين، الخيار الإخواني المغلق، والخيار المفتوح الاحتمالات لتحالف الشعب والجيش، كما كان الحال في أبهى لحظات التاريخ المصري.

Posted in Uncategorized.