بهدوء | الأردن الذي يأتي

تحدث التحولات الاستراتيجية التي يشهدها الأردن، تحت ضغط متنام لضرورة اجتماعية تاريخية تحكمها، وتتحكم فيها، ولا تتعلق بالتوجهات الواعية أو غير الواعية للمنظومة السياسية إلا بقدر تفاعلها مع إيقاع التاريخ، البطيء إنما الثابت؛ هو، إذاً، فصل جديد من مسيرة الجماعة الوطنية الأردنية، نحو تأكيد حضورها الإقليمي والدولي.
الدبلوماسي اللبناني النابه الذي راقب، خلال السنوات الخمس الأخيرة، التطورات الأردنية عن كثب، يلاحظ كأن الأردنيين يعيشون، اليوم، ثمانينات الشيعة اللبنانيين؛ يتحفّزون للتعبير عن الذات والمصالح الجماعية من خلال عملية إعادة تموضع استراتيجي فاعلة في قلب الإقليم.
ينطوي هذا التشبيه على كثير من الصحة، لكنه يظل، بالطبع، في خانة المجاز؛ فالجماعة الوطنية الأردنية لها تراث طويل في التعبير عن نفسها من خلال الدولة الوطنية، وفيها، لا خارجها أو ضدها. صحيح أن هذه الدولة ـــ في ما بعد إمارة البلقاء المحلية المهزومة عام 1923 ـــ لم تتطابق يوماً، بصورة كاملة، مع احتياجات تلك الجماعة التي تنطق الدولة باسمها، وتستبطن شرعيتها، وتقوم على عصبيتها وعمودها؛ لكن ذلك التطابق هو، بالذات، جوهر الصراع السياسي الذي شهده ويشهده الأردن، وجعل من الموجات الناصرية والفلسطينوية والإسلاموية، ذات تأثير برّاني، يستثير الآليات الدفاعية الذاتية. وقد أفاد النظام الهاشمي، بالطبع، من هذه المعادلة الداخلية للصمود في المفاصل الكبرى (1957 و1970) ويفيد الآن أيضاً في معركة ناجحة مع الإسلام السياسيّ، لكن، في النهاية، علينا أن نتابع الخط الأساسي في هذه العملية المزدوجة؛ ففي مجرى الدفاع عن الدولة، تفرض الجماعة الوطنية، في كل مرحلة، شروطها على النظام السياسي، وتعيد تكييفه لمصالحها الوطنية والاجتماعية العليا. في المواجهة مع التحدي الناصري البرّاني، فرضت الحركة الوطنية، نوعاً محلياً من الناصرية في دولة القطاع العام في الستينيات والسبعينيات، وفي المواجهة مع التحدي الفلسطينوي في الـ1970، فرضت الحركة الوطنية، أردنة الجيش والقوات المسلحة والإدارة. وقد ضمر هذان المكسبان، وتراجعت مفاعيلهما بعد معاهدة وادي عربة 1994 مع العدو الإسرائيلي؛ قوى النظام استشعرت القدرة على البقاء من دون الحماية الداخلية، مستندة إلى وهم الحماية الأميركية ـــ الإسرائيلية. وهذا هو الأساس في فشل النظام وأدواته في فرض التطبيع مع إسرائيل ليس على المجتمع الأردني فقط، بل أيضاً على الدولة الأردنية وأجهزتها ومؤسساتها.
(لكن، بالطبع، مع اختراقات عميقة في مؤسسات حساسة. وزارة الخارجية مثلاً. وهي تُعدّ وكراً للتبعية للغرب والتطبيع مع إسرائيل، ويستشري فيها، الآن، الفساد المؤسسي مع وجود وزير تلقى هدية بمليوني دولار من عاصمة خليجية. الوزير ناصر جودة، ربما يكون أكثر المسؤولين الأردنيين اغتراباً عن التفاعلات السياسية الداخلية، وأكثرهم تعبيراً عن مزاج غربي خليجي اسرائيلي لم يعد له مكان في أردن اليوم. وهي مفارقة من المنتَظَر أن يجلوها الصراع اللاحق حول مضمون الحكومة النيابية التي ستلي الانتخابات العامة في 23 كانون الثاني الحالي).
في الفترة الواقعة بين احتلال العراق 2003 وانطلاق الحراك الشعبي في 2010، وجدت قوى النظام ومجموعات البزنس، نفسها متحررة من الضغوط الخارجية والداخلية معاً، فكانت مرحلة نهب الأردن، وتجريف مؤسسات الدولة، وتهميش المحافظات، والتراجع الواسع عن آخر المكتسبات الاجتماعية والسياسية للجماعة الوطنية الأردنية التي بادرت، بالتالي، إلى التحرك وراء برنامج راديكالي: (1) إنهاء أي متعلقات للدور الأردني في الضفة المحتلة من خلال قوننة فك الارتباط معها. المضمون الفعلي لهذا المطلب يقوّض معاهدة وادي عربة، التي لا معنى لها من دون الارتباط الفدرالي أو الكونفدرالي مع أوسلو، (2) محاسبة وتفكيك مؤسسة الفساد والخصخصة. وهو مطلب يعني إسقاط طبقة كاملة من المتنفذين ورجال الأعمال الذين حكموا البلاد ونهبوها في ظل الاحتلال الأميركي للعراق، (3) التنمية المستدامة في المحافظات، بعقول وسواعد أبنائها، أي في سياق نقدي للنمو النيوليبرالي الزائف للاستثمارات الأجنبية والشركات.
سعى الإخوان المسلمون إلى توظيف الغضب المصمم للجماعة الوطنية الأردنية، في سياق خططهم للاستيلاء على الحكم في البلاد، لكن فشلهم كان حتمياً بالنظر إلى أن برنامجهم يقوم على نقض البرنامج الوطني الاجتماعي الأردني، أي على الارتباط مع الضفة وغزة، وتثبيت سيطرة طبقة البزنس وحكم النيوليبرالية ـــ لا العكس ـــ وخفض التمثيل السياسي للمحافظات ــــ وما ينشأ عنه من تعميق تهميشها الاقتصادي ـــ.
اللحظة السياسية الأردنية اليوم، لها ركنان: محاصرة المشروع الإخواني بامتداداته الإقليمية، والسعي إلى تفاهمات حول تنفيذ مطالب الجماعة الوطنية الأردنية؛ يعني ذلك ـ حرفياً ـ أردنة شاملة وخياراً ديموقراطياً اجتماعياً عميقاً وتجاوز التزامات وادي عربة. هل نستطيع من دون صدام باهظ الكلفة؟ هذا هو التحدي الماثل.

Posted in Uncategorized.