بهدوء | أفول عصر الإسلام السياسي

أبهذه السرعة يتحرك التاريخ في العالم العربي الجديد، فينحدر بطل المرحلة، الإسلام السياسي، من ذروة الهيمنة على الإجماع الوطني، إلى حضيض سلطوية مهزوزة ومعزولة؟ كان ذلك الانحدار متوقعاً من قبل منظّرين ماركسيين، أبرزهم المصري سمير أمين، بالنظر إلى افتقار الإسلاميين إلى إجابة تقدمية عن أسئلة التنمية وبناء الاقتصاد العادل والديموقراطية الاجتماعية. وهو ما فجّر الصراع في تونس بين الحزب الإسلامي الحاكم (النهضة) والاتحاد التونسي للشغل، لكن المفاجأة المصرية، كمنت في تجاوز المستوى الاجتماعي للاعتراض الشعبي المتوقع على السياسات الاقتصادية الإخوانية، نحو صراع تاريخي بين إجماع مدني علماني (تقوده جبهة الانقاذ) مع إسلام سياسي بلا حلفاء؛ بذلك، يكون الأخير قد فقد هيمنته ــــ وليس، بالضرورة، سيطرته السلطوية العارية أخلاقياً والمؤقتة سياسياً ــــ وخسر مشروعه. ومشروعه، كما سبق لمحمد مرسي أن أعلن، صراحة، لدى مثوله بين يدي ملك السعودية، هو «مشروع أهل السنّة والجماعة» الذي «ترعاه الرياض وتحميه القاهرة».
جوهر «المشروع» الانتحاري هو تحويل جسم الأمة السنّي ــــ ومركزه مصر ــــ إلى «طائفة» مغلقة، يهيمن التحالف الإخواني السلفيّ عليها، وتقودها الرجعية الخليجية، وتستخدمها لبناء دكتاتوريات شبه فاشيّة تحظى بدعم النظام الامبريالي مقابل تأمين استمرار سيطرته في البلدان العربية، في ثلاثة مجالات رئيسية: الكمبرادورية (نظام اقتصادي يديره الوكلاء التابعون للرأسمال العالمي، ومنه فرعه الخليجي)، وإبقاء خضوع منظومة النفط والغاز العربية للمصالح الغربية، وتوفير الدعم الشعبي للسلام الواقعي مع إسرائيل. ومن ثم، يكون الإسلاميون أحراراً بتشكيل المجال الثقافي ــــ السياسي الداخلي اللازم لتطييف الأكثرية، ووضعها في حالة صراع دائمة مع المكونات الطائفية والمذهبية العربية الأخرى، المسيحية والشيعية والعلوية الخ.
غير أن حجم الكتلة السنية العربية، وتكوينها التاريخي الأغلبي وتراثها القومي، من جهة، وامتدادها الجغراسياسي وتعددها على المستويين الوطني والاجتماعي، من جهة أخرى، يجعل من غير الممكن تطييفها (حالة لبنان خاصة، محلية وهامشية)؛ هكذا انشقت «الطائفة» المستحيلة إلى معسكرين سيحددان الصراع في المرحلة المقبلة، معسكر الإسلام السياسي ومعسكر العلمانية.
منذ «النهضة» في النصف الثاني من القرن الـ19، لم يغب الإسلام السياسي عن مسرح الأحداث في العالم العربي؛ إنما كان دائما على الهامش، مُلحقاً بالأنظمة الرجعية أو أداة اعتراض وتخريب بيدها في مواجهة صعود حركة التحرر الوطني الاجتماعي، وخصوصاً في المرحلة الناصرية. بعد هزيمة الـ 67، بدأ الإسلام السياسي يكتسب شرعية ضدية، وانتشاراً سياسياً كرّسته الساداتية وصعود السعودية والبترودولار، 1974، وألهمته الثورة الإيرانية، 1979، وعززه انكسار العراق القومي وسقوط الاتحاد السوفياتي، 1990، والأفول الفتحاوي في أوسلو 1994، وانتشار الفيروس الليبرالي، في التسعينيات، في صفوف القوميين واليساريين المهزومين المضطرين إلى الانضواء في تحالفات تحت هيمنة الإسلاميين. وفي حقبة جورج بوش الصغير ( 2000 ـ 2008) حصل الإسلاميون ــــ بكل أطيافهم ــــ على موقع القيادة الحاسم في مواجهة قاسية مع واشنطن انتهت بمصالحة كبرى، انطلاقاً من تحوّل المقاومة السنية في العراق إلى موقع التعاون، وتسارع التفاهمات الاستراتيجية بين واشنطن والإخوان المسلمين بوصفهم الوكيل المعتدل للإسلام السياسي، السلفي والسلفي الجهادي.
كل تلك المسيرة الصاعدة توّجت في ما يسمى الربيع العربي 2011؛ كان الإسلاميون مهيَّئين لحصد النتائج، وخصوصاً أنهم تبنوا، لاستكمال نسيج الهيمنة الفكرية السياسية، الخطاب الليبرالي وشرعية صناديق الاقتراع.
إلا أن الدكتاتورية تقع في صلب المقاربة الإخوانية، سواء في التنظيم القائم على العصبية والطاعة والتعبئة المعادية للآخر، أم في استراتيجية «التمكين». وهي استراتيجية انقلابية في جوهرها. وهكذا، فإن ما يسمى التطور الليبرالي لدى «الإخوان» لا يعدو كونه ضرباً من البراغماتية في استخدام الوسائل الانتخابية من أجل ضمان تمكينهم من السلطة للقيام بانقلاب، كما يحدث في مصر الآن، لكن، حين تكون الوسائل الانتخابية مغلقة، فإنهم سيلجأون إلى السلاح، كما هو حاصل في سوريا الجريحة.
لكن ما يحتاج إلى التفسير، في حالتيّ تونس ومصر، حيث نجح «الإخوان» بالوسائل الانتخابية، هو السبب الكامن وراء تعجّلهم الكشف عن أنيابهم الدكتاتورية والمليشياوية. ويمكننا القول، هنا، إنهم اكتشفوا، سريعاً، أن الصراعات الاجتماعية الملتهبة التي كانت محرك الانتفاضات الشعبية العربية، لا يمكن كبحها، واستعادة الاستقرار في ظل السيطرة الامبريالية، بوسائل ديموقراطية.
لم تثر الجماهير الشعبية المسحوقة تحت جنازير البلدوزر الكمبرادوري، من أجل تطبيق الشريعة، واستمرار الخضوع لمصالح رجال الأعمال ووصفات صندوق النقد الدولي تحت لافتة إسلامية، وإنما للتحرر من القهر والإفقار والتهميش. بالأساس، لجأت تلك الجماهير إلى الإسلام السياسي كتعبير عن احتجاجها على وضعها الاجتماعي. وكان طبيعياً، بالتالي، أن تلفظه حين يغدو هو في الموقع السلطوي المضاد.

Posted in Uncategorized.