الاستقلاليون في عمان

الاستقلاليون في عمان

ناهض حتّر
لعب حزب الاستقلال بين عامي 1920 -1924، دورا مهما في حياة الاردن السـياسية وأسهم رجالاته -بصورة خاصة -اسهاماً بارزاً في تأسيس دولة الامارة، وتثبيت اركانها، وتعزيزها، وسط صحراء الغموض والسلاح والفرسان والتمرد والمعارضة، التي اسمها: شرق الاردن.
جاءت اولى مجموعات الاستقلاليين الى الاردن، عقب سقوط الحكومة العربية الفيصلية في دمشق، واجدة فيه ملاذاً من مطاردة سلطات الاحتلال الفرنسي لها، ومكانا ملائما لاعادة تنظيم القوى ومنطلقا لمقاومة المحتلين. وقد حل الاستقلاليون، بماضيهم المشرف وببرنامجهم التحرري، في احضان الجماهير الاردنية وحمايتها ٠٠+٠٠ حيث لا تستطيع ايدي المستعمرين ملاحقتهم، وحيث التف حولهم الوطنيون الاردنيون في اطار حركة عامة، ترفض الاعتراف بسقوط الدولة العربية السورية، وتصر على الاحتفاظ بـالطابع الوطني للأردن.
واثر قدوم الامير عبد الله في تشرين الثاني 1920 الى البلاد، اخذ الاستقلاليون يفدون اليها ويتمركزون فيها، مشكلين جزءا اساسيا في حركة الامير، ومقتسمين المواقع الرئيسية في جهازه السياسي.
كان الامير عبد الله يعرف حجم قوة حزب الاستقلال، ويدرك مدى ضرورة التحالف مع الاستقلاليين لانجاح حركته. فقد كان الاستقلاليون يحظون باحترام اهالي المنطقة، ويتمتعون بصلات ممتازة مع زعمائها ووجهائها، وكانت لهم، في الغالب، كلمة مسموعة، وقدرة على التأثير في الحـياة العامة. وفوق ذلك، فقد كان الاستقلاليون يملكون خبرة طويلة في العمل السياسي، وتنظيما سياسيا اجتمع فيه وحوله، العديد من السياسيين المتمرسين والاداريين والعسكريين المحترفين والمثقفين بعامة. ومن هنا فقد سعى الامير عبد الله بإصرار الى التحالف مع الاستقلاليين فبدونهم لم يكن سهلا نجاح حركته أو تأسيس جهاز دولة الامارة.
وقد سعى الاستقلاليون، من جهتهم، الى التحالف الوثيق مع الامير عبد الله، ووضع قوتهم السياسية، وقدراتهم التنظيمية في خدمة اهدافه. فقد كان هذا التحالف يعطيهم، كفئة اجتماعية وكتيار سياسي، موقعا ممتازا في جهاز السلطة الناشئة، يمكنهم من تحقيق برنامجهم الخاص بمقاومة المحتلين الفرنسيين في سورية.
ولقد كان تحالف الطرفين “الامير عبد الله وحزب الاستقلال” تحت شعار تحرير سوريا، قادرا، في البداية على حشد تأييد مجمل القوى الاجتماعية الاردنية، العشائرية والوطنية، وراءه، وتهيئتها، ومعها سلطات الانتداب البريطاني، للاعتراف بهذا التحالف، بـاعتباره القوة السياسية الرئيسة المؤهلة لاستلام السلطة في شرق الاردن.
وحينما غادر الامير عبد الله إلى القدس، أواخر آذار 1921، لإجراء مفاوضات بشأن الوضع في شرق الاردن، مع تشرتشل، اصطحب معه، اضافة لسكرتيره عوني عبد الهادي – والذي لعب دورا كبيرا في الاتصالات بين الامير والبريطانيين – عددا من قادة الاستقلاليين منهم احمد مريود، رشيد طليع، أمين التميمي، مظهر أرسلان(1)… ولم يبرم الامير اتفاقه مع تشرتشل، المعروف باتفاق القدس والقاضي بإقامة امارة شرق الاردن ضمن الشروط التي سبق أن عرضناها(2)…، الا بعد ان اجرى مشاورات مع صحبه من الاستقلاليين الذين وافقوا على مشروع تشرتشل بالإجماع (3)…
اذن، فقد كان ابرام اتفاق القدس، قرارا مشتركا بين أ-الأمير عبد الله ب-التيار الموالي للإنجليز في فلسطين ج-والاستقلاليين، ومن هذه القوى الثلاث التي بادرت الى تأسيس جهـاز الدولة في الاردن على أساس اتفاق القدس، كان الاستقلاليون، للأسباب التي ذكرناها آنفا يمثلون الطرف الاقوى، وقد انعكس ذلك في اول تشكيل وزاري في عهد الامارة، اذ تشكل (مجلس المشاورين) على النحو التالي:
1- رشيد طليع، الكاتب الإداري، ورئيس مجلس المشاورين، ووكيل مشاور الداخلية.
2- الامير شاكر بن زيد، نائب العشائر.
3- أحمد بك مريود، معاون نائب العشائر وعضو مجلس المشاورين.
4- امين بك التميمي، مشاور الداخلية ومتصرف لواء عجلون.
5- مظهر بك رسلان، مشاور العدلية والصحة والمعارف وعضو في مجلس المشاورين.
6- علي خلقي بك، مشاور الامن والانضباط وعضو في مجلس المشاورين.
7- الشيخ محمد الخضر الشنقيطي، قاضي القضاة وعضو مجلس المشاورين.
8- حسن بك الحكيم، مشاور المالية وعضو مجلس المشاورين(4).
ولم تكن سيطرة الاستقلاليين على الوزارة الاولى دليلا على قوتهم فحسب، بل وكانت، أيضا ضرورة لاقناع اهالي شرق الاردن بقبول اتفاق القدس، والحكومة المنبثقة عنه… وعلى سبيل المثال، فان الاستقلاليين كانوا وحدهم من يستطيع اقناع أحد الوطنيين الاردنيين انذاك، علي خلقي الشرايرى، الاشتراك في الحكومة (5). وهو الامر الذي اعطاها طابعا وطنيا وشرعية اردنية.
الا ان قدرة الاستقلاليين على ضبط ردود فعل القوى الاجتماعية الاردنية زاء السلطة المركزية الجديدة لم تدم طويلا… فتحت تأثير تطور الاحداث اللاحق، أخذ تأثير الاستقلاليين، على هذه القوى يتلاشى… وأخذ التحالف بين الاستقلاليين والوطنيين الاردنيين يتهاوى، ومع بداية الصراع الموضوعي بين الزعماء الوطنيين والعشائريين الاردنيين والسلطة الجديدة انحاز الاستقلاليون لموقعهم في السلطة تماما. ووجد الوطنيون الاردنيون أنفسهم في موقع المعارضة، وبحدوث ذلك، فقد الاستقلاليون عامل قوتهم الاساسي في تحالف السلطة الجديدة وبدأ دورهم فيها يتضاءل لمصلحة تنامي نفوذ التيار الموالي للإنجليز وراء الاعتماد البريطاني، واخذ شكل زيادة المناصب التي تسلمها استقلاليون يمينيون او معارون من موظفي سلطات الانتداب البريطاني في الحكومات الاردنية اللاحقة.
واجه اتفاق القدس، والسلطة الجديدة، المنبثقة عنه، وبسرعة، معارضة جميع القوى الاجتماعية الاردنية، وذلك للأسباب التالية:
أولا: لقد تم ابرام اتفاق القدس، دون استشارة او موافقة اي من ممثلي اهالي شرق الاردن، وتشكلت على اثره حكومة لم تضم سوى اردني واحد، وقد كان ذلك بادئ ذي بدء، كفيلا بخلق شعور عام مناهض للاتفاق والحكومة المنبثقة عنه، فقد تم استثناء الأردنيين كليا من تقرير، او حتى الاشتراك في تقرير مصير بلادهم، كما فرضت عليهم حكومة مركزية جميع اعضائها (باستثناء واحد) من غير أهل البلاد.
وكان ذلك مدعاة للاحساس بالغبن والضياع والخطر… خاصة، وان البلاد مرت بتجربة الحكومات المحلية الناشئة عن مفاوضات اجراها ممثلو القوى الاجتماعية الاردنية انفسهم، قرروا فيها بانفسهم، مصير مناطقهم، وشكلوا بأنفسهم حكومات اردنية قلبا وقالبا وتعبر مباشرة عن القوى الاجتماعية الموجودة. وعلى الرغم من تباين برامج الحكومات المحلية، بين برنامج ذي آفاق بورجوازية ديمقراطية، يسعى لإيجاد سلطة مركزية موحدة في البلاد (كحكومة عجلون) وبرامج اخرى اقل طموحا، يصطبغ معظمها بالصبغة العشائرية، على الرغم من هذا التباين، فان الامر الاساسي هنا ان مجمل القوى الاجتماعية الاردنية، ولأول مرة، مارست اتخاذ القرار السياسي، والتفاوض، وتقرير المصير، وأخيرا وليس آخرا، تمتعت بالسلطة السياسية المستقلة، ولذلك، فلم يكن أمرا سهلا، تجريدها من جميع ذلك، الى التفاوض بـاسمها، واتخاذ القرارات بمصيرها ومصير بلادها دون مشاركتها، وخضوعها مرة اخرى لسلطة غير اردنية، لم تشترك في انشائها ولا تتمثل بها.
ثانيا: ان انقسام شرق الاردن في وحدات مناطقية عشائرية، تمتع زعماؤها، تاريخيا، بقدر كبير من الاستقلال الذاتي… ورسوخ التقاليد المعادية للسلطة المركزية في البلاد، كانت تشكل عوامل اساسية في رفض الزعماء العشائريين، ومن ورائهم جماهير البدو والفلاحين، للسلطة المركزية الجديدة، سيما وان هؤلاء الزعماء كانوا يشعرون بقوتهم ازاء تلك السلطة، فقد كانت المنطقة تتمتع بتسليح كثيف، وباعداد واسعة من الرجال المدربين والمستعدين للقتال والمطيعين لزعمائهم.
ثالثا: وجد الوطنيون الاردنيون، وهم في مجملهم مثقفون يتحدرون من اوساط فلاحية غنية او متوسطة، في اتفاق القدس، والحكومة الجديدة بتركيبتها الخاصة، عائقا امام طموحاتهم الاجتماعية والسياسية…
رابعاً: وقد مثل اتفاق القدس تراجعا ملموسا من معاهدة ام قيس.
فبينما لم يرد في معاهدة ام قيس اعتراف بسقوط الدولة العربية السورية، فقد استند اتفاق القدس الى ذلك، وبينما اقرت المعاهدة المذكورة مبدأ السيادة الوطنية وعدم تسليم المجرمين السياسيين، وبكلمة اعطت للاردن حقه القانوني، بممارسة وتشجيع المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي لسورية، فان اتفاق القدس تضمن بندا ينهي حالة العداء مع الاحتلال الفرنسي، ويضمن سلامة الحدود الاردنية السورية، والاردنية الفلسطينية، بينما اكدت معاهدة ام قيس على انشاء جيش ملي (وطني)، اشارت اتفاقية القدس الى اقامة ” قوة لحفظ الأمن” ليس الا، وفي حين اعطت اتفاقية القدس للبريطانيين حق التواجد العسكري في الاردن فان معاهدة ام قيس لم تعطهم ذلك. في حين تضمنت معاهدة ام قيس بنودا واضحة تتعلق بمنع هجرة اليهود الى الاردن او شرائهم اراضي فيه، وتأكيد حرية التبادل التجاري مع الاقطار المجاورة، والحق بإقامة علاقات دبلوماسية دولية، وتأكيد عدم علاقـة شرق الاردن بحكومة الانتداب البريطاني في فلسطين… الخ، فان اتفاقية القدس لم تتضمن شيئا من هذا، فكان طبيعيا والحالة هذه ان يرى الوطنيون الاردنيون في اتفاقية القدس، تنازلا عن الطابع الوطني للاردن وتفريطا بمكتسبات حصلت عليها البلاد (6).
وهكذا، وجدت القوى الاجتماعية الاردنية، بمجملها، نفسها في جبهة معارضة واسعة لاتفاق القدس، والحكومة المركزية المنبثقة عنه.
وسرعان ما تناسى الوطنيون الاردنيون، والزعماء العشائريون خلافاتهم السابقة ابـان فترة الحكومات المحلية، بحيث اخذت خيوط التحالف تنسج بينهم في جبهة اردنية واحدة، فالخطر لا يشمل الوطنيين دون العشائريين، او العشائريين دون الوطنيين، هذه القوى الاجتماعية دون تلك… بل كان الخطر يشمل جميع القوى الاجتماعية الاردنية ويجرد جميع الاردنيين من حقهم في تقرير مصيرهم وممارسة ادوارهم والتعبير عن مصالحهم الخ…، ويهدد البلاد كلها بضياع طابعها الوطني، وشخصيتها ومصالحها الخ… وهكذا، انوجدت الأسس التي نهضت عليها الحركة الوطنية الاردنية في العشرينات والثلاثينيات، والذي وسم هذه الحركة، طيلة تلك الفترة بطابع اساسي هو تحالف الوطنيين والزعماء العشائريين تحت شعـار (الأردن للأردنيين): ولم يكن هـذا الشعار اقليميا او انعزاليا، وانما كان يعبر عن برنامج وطني ديمقراطي النزعة، سنرى تفاصيله لاحقا في عرضنا لانتفاضة 1923 المجيدة.
————————-
(1) الماضي والموسى، تاريخ الاردن في القرن العشرين ص 146
(2) انظر، اوراق اردنية / صوت الشعب 15/11/1985
(3) انظر، مذكرات الامير عبد الله /طبعة5/ ص157
(4) انظر، الماضي والموسى م م، صفحة 149
(5) يذكر علي خلقي الشرايرى في مذكراته المخطوطة انه لم يقبل الاشتراك في بادئ الامر، في الحكومة المركزية الجديدة، وانه غير رأيه استجابة لطلب من رشيد طليع.
(6) قارن بين نصي معاهدة ام قيس واتفاقية القدس في غير مصدر:
الماضي والموسى (مصدر مذكور)
وعلي المحافظة: العلاقات الاردنية البريطانية: من تأسيس الامارة حتى الغاء المعاهدة (1921-1957) بيروت
دار النهار للنشر، 1972
وأيضا اوراق اردنية صوت الشعب عدد 15/11/85 وعدد 17/11/85
(7) انظر الماضي والموسى (مصدر مذكور)

Posted in Uncategorized.