ناهض حتّر
واشنطن وطهران تتجهان الى التفاهم. الامريكيون هم الذين تراجعوا عن التصعيد، وقدموا للايرانيين، اقتراحات واغراءات لطيّ أزمة الملف النووي للجمهورية الاسلامية، مقدمة للأكثر أهمية: التفاهم حول العراق.
مَنْ يصدّق ان التهييج الامريكي ضد ايران هو بسبب نشاطها في تخصيب اليورانيوم، لا يستطيع، لسذاجته، ان يفهم الموقف الحاصل. تخصيب اليورانيوم (= امكانية الحصول على القنبلة النووية) مجرد ذريعة للحرب، وتغيير النظام، والسيطرة على البلد النفطي الوحيد في الشرق الاوسط، المستقل، فعلياً، عن الولايات المتحدة. لكن، اتضح للمؤسسة الامريكية الحاكمة، ان الحرب ستكون، هذه المرة، خسارة صافية، فتراجعت، وكبحت، وستكبح جماح الغلاة المحرضين على الصدام من داخل تلك المؤسسة الديناميكية في تغيير الاستراتيجيات، وفقاً لموازين القوى. ويمكن للنظام الايراني الآن – اذا ما تمكن من توحيد أجنحته – ان يحقق انتصاراً، يتمثل في الاعتراف به، وبخياراته، وتكريس ايران قوة اقليمية رئيسية، سوف يكون لها دور لا يمكن تجاوزه من العراق (والخليج) الى فلسطين ولبنان وسورية. أعني ان الايرانيين سوف يجلسون على طاولة المفاوضات للتسويات على مستوى الاقليم كله. من جهة اخرى، سوف يكون هنالك اعتراف دولي بالعلاقات الثنائية الاستراتيجية للجمهورية الاسلامية مع روسيا والصين.
ما الذي حدث وأظهر، بالملموس، حدود القوة الامريكية التي يحسب معظم العرب الرسميين انها بلا حدود؟
«1» انسحبت طهران من الترتيبات الخاصة بافغانستان، وقدمت الدعم السياسي والتسليحي لجبهة افغانية تتسع من المقاتلين ضد الاحتلال الامريكي الاطلسي للبلد الذي صحا فجأة، وبدأ يرسل النعوش الى الولايات المتحدة بالمئات.
«2» فشل جديد في العراق مع الحكومة المنتخبة المشلولة التي تمثل نهاية للعملية السياسية الامريكية في البلد المشتعل بالمقاومة والفوضى السياسية والأمنية والمنحدر بشدة نحو «الصوملة». تراجع الامريكيون الآن عن السعي الى استرضاء الاستعصاء العربي السني، وقرارهم هو تدمير مقاومة هذه «الأقلية» الصلدة، بالحديد والنار، بالمذابح (كما في حديثة والاسحاقي) والتهديد بالاغتصاب الجماعي للنساء (كما في الضلوعية) والتحضير لعملية إبادة جماعية في الرمادي، «وتطهير بغداد طائفياً، واعادة احتلالها، والترتيب لانقلاب عسكري يضبط الأمن، وينتشل المشروع الامريكي من مأزقه. وهذه الخطة غير ممكنة من دون التفاهم مع ايران التي تملك حضوراً سياسياً وأمنياً ومليشياوياً على الارض، من شأنه ان يكون سنداً للاحتلال أو انفجاراً ضده.
«3» في لبنان (وسورية) ظهر، بوضوح، ان موازين القوى لا تسمح بتدمير حزب الله او احداث تغيير جذري في التركيبة اللبنانية – بالنظر الى التحالف القائم بين الشيعة بقيادة حسن نصرالله والمسيحيين بقيادة ميشيل عون – وكذلك، فشل المعارضة السورية في تكوين قوة تغيير داخلي ذات تأثير.
«4» بالاضافة الى قوة الردع الايرانية، القدرات العسكرية المتصاعدة للجيش الايراني، والأذرع الايرانية القوية في العراق ولبنان وفلسطين والمنطقة.
«5» وفي خلفية ذلك كله: الموقف الروسي (والصيني) بالمساندة الثابتة لطهران وارتفاع اسعار النفط، الذي تجاوز كل التوقعات، والخشية من ان يؤدي الصدام الامريكي – الايراني، الى ارتفاعات جنونية في تكاليف الطاقة تضرب قلب الاقتصاد العالمي.
«6» واخيراً: اوروبا الخائفة من الحرب وتفاقم ازمة الطاقة والساعية الى فترة تهدئة على الصعيد العالمي. حتى رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، لم يعرب، هذه المرة، عن حماس للحرب. انه لا يريد حرباً جديدة في المنطقة.
«7» وهي حرب لا تريدها اسرائيل ايضاً: ذلك ان هنالك فارقا بين ضربة جوية اسرائيلية لايران، في نطاق الصراع الاقليمي، وبين حرب امريكية تفاقم تهميش اسرائيل التي ستدفع الثمن على كل حال، اسرائيل تنكفىء وراء «الجدار». فاذا كان «الجدار» عدواناً على فلسطين والاردن بالطبع، فهو – على المستوى الاقليمي – يمثل قراراً بالانكفاء. الاقليم وشعوبه وقضاياه وتعقيداته وقواه أكبر من اسرائيل التي ينحصر مجالها الحيوي في الضفة الغربية والأردن.