ناهض حتّر
اكتب هذه الجمعة – وكل جمعة – نزولا عند رغبة اصدقاء كثيرين، لكنني اخص منهم الباشا، الدكتور يوسف القسوس… فبالاضافة الى انني مستعد ان اكتب لقارئ واحد في مكانته، فانني للحق – افكر فيه، واستحضر صورته يوميا.
كيف لا، وقلب ولدي معتصم «16 عاما» بين يدي الباشا؟
رغم كل الشقاء الذي عرفته في حياتي في الزنازن والمطاردات ومعاناة الاقتراب من الموت والعمليات الجراحية الكبرى والاستشفاء البطيء، والتعتيم والحصار… فانني لم اعرف الشقاء حقا، الا عندما اصيب قلب معتصم.
انا اعرف جيدا هذا القلب الذكي، الثائر، المحتدم بالاشواق… وبودي ان اسأل الباشا: هل سيتحمل قلب معتصم الزنازن، والعسف واوجاع العشق وصلابة الارادة؟
معتصم شاعر واعد، يكتب – للاسف – بالانجليزية ومؤلف موسيقي وعازف بيانو، ومن انصار مريم المجدلية، والقائلين بتأنيث المطلق. وهو مثلي، على تناقض لا يفهمه الكثيرون، بين التعصب للاردن، ومحبة العرب، والانفتاح – اللامحدود – على الثقافة العالمية.
انا آسف انني اتحدث عن شخص هو، ايضا، ابني. ولكن، لو لم يكن كل هذا الجمر في قلبه… ما قلقت على قلبه الى هذا الحد.. وما استحضرت صورة الباشا، بين الحين والحين، لاطمئن. وهذا هو بيت القصيد! اريد ان اقول ان الطبيب ليس حاسوبا.. وانما حضور انساني كثيف.. يعلو ويسمو… بقدر كثافة القلق واللهفة.
وجدان الدكتور القسوس – وهذا اهم من علمه الواسع وخبرته المديدة – تشكل في خمسينيات النضال. وقد هاتفني لكي يصحح لي معلومة تاريخية من تلك الفترة، مذكرا لي انه كان، بنفسه، بين المتظاهرين شاهدا.
في مذهبي، فان التجربة الاردنية حتى الثمانينيات، هي تجربة واحدة من الناحية الانسانية، والمناقبية. اعني ان المرجعية الاخلاقية للاردني كانت هي ذاتها، سواء أكان حراثا ام طبيبا، حزبيا ام مسؤولا، مواطنا ام ضابطا، وبرتبة الباشوية مثل دكتورنا القسوس.
بهيبته ولطفه ودقته، يخفي الدكتور القسوس، الجزء الاكبر من مكانته العلمية والاجتماعية، تحت الماء، ويمنحك ذلك الشعور العميق بالاطمئنان…
ولذلك، عندما يلم بي القلق الشديد على قلب معتصم، اجدني استحضر صورة الباشا… ولا اتذكر حتى كلامه، فكأنه – عندي – أيقونة للثقة. هكذا يصح ان نصف الطبيب باللقب القديم الدقيق: «الحكيم»! انه ذلك الانسان الذي يختزن العلم والطاقة الانسانية معا، ويمنحك لمسة الحرية من عبودية المرض.
ينبغي لي ان استذكر، هنا، حكيما آخر.. انه الدكتور نبيه معمر، شيخ الجراحين الاردنيين… وقد انقذ حياتي العام 1998 انه انموذج آخر، بسيط ومرح، لكنه، ايضا، عميق، خبير ومشحون بالطاقة الانسانية.
وليعذرني اصدقائي الاطباء المجاملين لي، فسوف اصمت عنهم – احتراما للمقامات – الا واحدا هو الدكتور خالد كلالدة – رفيقي في النضال وصديقي – فهو الذي يتابع تقاليد الطبيب الاردني – الانسان، والذي لم يتلوث – ابدا – بشهوة المال او المنصب، وظل، دائما، وفيا لقيم الشيوعية – كما يجسدها – اي محبة خلق الله، وخدمتهم بلا كلل ولا تذمر ومن دون انتظار الشكر او الجائزة. وانا اسمح لنفسي ان اكتب عن خالد الى جانب الكبار، تحية له بمناسبة تقاعده المبكر، فقد آن لابي فرحان ان يتفرغ للنشاط السياسي.
د. خالد كان طبيبي في اللحظات الصعبة في حياتي.. فمن سواه يداويني في المخبأ، وانا مطارد.. او وانا حزين!.
الطب – مثل السياسة والعبادة – لا يجتمع مع التجارة، بل مع الحكمة والانسانية والحزم والحس المرهف بالمسؤولية الاجتماعية والوطنية. ولذلك، فأنني اخشى على الجسم الطبي الاردني من انتشار الفيروس الليبرالي! اخشى على الاجيال الجديدة في بلدنا من افتقاد ذلك الشعور المنجّي بالطمأنينة.. عندما تثق – وانت في الهاوية – بأن حياتك في مأمن، طالما ان الدكتور نبيه معمر فوق رأسك! وان قلب ولدك سوف يشفى، طالما ان الدكتور يوسف القسوس حاضر.. وانك ستجد الرعاية الطبية والشخصية، في اقسى اللحظات، طالما ان الدكتور خالد كلالدة يأتي الى المخابىء!.