ناهض حتّر
التغييرات الحاصلة في السياسة الامريكية على خلفية المسألة العراقية، هي علامة أساسية على مراجعة امريكية شاملة للاخفاق في العراق. هذه المراجعة، بالطبع، لن تؤدي الى انقلاب في المشروع الامريكي إزاء البلد الجريح، بل الى محاولات متداخلة ومعقدة واكثر براجماتية، لانقاذ ذلك المشروع، خلال العامين المقبلين، وسيكون على العراقيين ان يدفعوا هم مرة أخرى، الثمن الباهظ لسياسات المراجعة الامريكية التي سوف تركز على خلق إطار للانسحاب الامريكي العسكري دون السياسي.
والحفاظ على الحد الأدنى من النفوذ السياسي والمصالح النفطية والاستراتيجية للولايات المتحدة في العراق، أصبح اصعب من أي وقت مضى، بسبب جملة من العوامل المتداخلة – عراقياً واقليمياً ودولياً – وذلك، فمن المحتمل ان ينشأ نوع من الاجماع الامريكي على انتهاج سياسة «واقعية» في العراق، تهدف الى «التقسيم»، كسياق لتلافي او اطفاء الحرب الاهلية.
وعلينا ان نلاحظ، هنا، أن أياً من الحزبين الامريكيين المتخاصمين لن يكون معنياً – مثلما هو الآن – ببحر الدماء العراقية فما يهم هو اخراج القوات الامريكية من الأتون دون التفريط بالهيمنة الامريكية.
وهناك تصور طالما ناقشته الصحافة ومراكز الدراسات الامريكية، يسمح بذلك. انه التقسيم. فانشاء ثلاثة كانتونات في العراق، كردي وسني وشيعي، سوف يدفع هذه الكانتونات الى طلب الدعم الامريكي والتعاون. وهو امر مفروغ منه بالنسبة للكانتون الكردي – حيث من المرجح ان تحتفظ الولايات المتحدة بقواعد دائمة – وبالنسبة للكانتون السني، الفقير الموارد والمرتبط – واقعياً – بالانظمة العربية الحليفة لواشنطن. وحتى بالنسبة للكانتون الشيعي، فان مصلحته المباشرة، ومحاولاته المتوقعة للاستقلال عن طهران، من جهة، وعن الكانتون السني من جهة اخرى، سوف تدفعانه الى الاحضان الامريكية.
هذا السيناريو المتداول للاجماع الامريكي: يجعله المحصلة الأكثر خطرا لسياسات بوش الصغير في العراق، لكنها ستتحلى بالواقعية والجهود الدبلوماسية والمفاوضات. بل وحتى التفاهم مع الجيران وتقديم التنازلات للقوى الدولية، خصوصا في المجال النفطي.
وهكذا، فإن المراجعة الامريكية، وتراجع واشنطن.. بل وهزيمة خطة الغزو، قد يكون مآلها هزيمة المجتمع العراقي، الواقع، اليوم، بين براثن القوى الطائفية والعرقية التي تحمل، بغض النظر عن خطابها السياسي، محركات الحرب الاهلية والتقسيم.
نحن، اذن، امام ضرورة قيام العراقيين بمراجعة شاملة للتجربة الوطنية، بنجاحاتها واخفاقاتها وميلها المأساوي الى تدمير الذات تحت وطأة المعاول الاستعمارية.
والهدف الاستراتيجي لهذه المراجعة هو التوصل الى إحياء وانتصار المشروع الوطني العراقي، ويبدأ ذلك، بالتأكيد ، من استنهاض كل القوى القادرة على اعادة توحيد العراقيين، وانا اقترح، هنا، ان كل المحاولات للمصالحة بين الرموز والقوى الطائفية والعرقية، سيكون مآلها الفشل، فهذه القوى لا تكتب حضورها وشرعيتها الا بالانشقاقات.. واعظم مآل قد تصل إليه، ايجابيا، هو المصالحة على اساس المحاصصة. وهي آلية لاعادة انتاج الاتفاقات والحرب الاهلية والتقسيم.
الحل- كما أراه موضوعيا- هو العودة الى العلمانية الصارمة الشاملة التي ترفض، مبدئيا وقطعيا، اختلاط السياسة بالدين والمذهب والعرقية، وتنادي باعادة بناء الحركة الوطنية العراقية على أساس المواطنة والدولة الوطنية.
ومن أجل ان يصبح هذا الحل – العلماني- احتمالا واقعيا، فإن المطلوب هو اعادة اصطفاف القوى العلمانية العراقية في جبهة تقطع مع الماضي على اساس نقد الذات، وتضم النخبة الوطنية العراقية بكل مكوناتها بمن في ذلك البعثيون، الناقدون لتجربة حكم البعث- والشيوعيون- الناقدون لتجربة التحالف مع الاطراف الخارجية والطائفية والعرقية- والقوميون- الناقدون لتجربة الخصومة القومية للمشروع الوطني العراقي وخصوصية المجتمع المتعدد الاعراق والمذاهب في العراق- والى هؤلاء هناك بالطبع، من هم اهم واكثر حيوية اعني مئات الآلاف من المهنيين والمثقفين والضباط ورجال العلم والنشطاء المدنيين ورجال الاعمال الوطنيين الخ ويمكن لجبهة علمانية متماسكة، تنطلق كل مكوناتها من النقد الذاتي وتتفق على برنامج وحدة العراق واستقلاله ونهضته، ان تستند الى قوة علمانية اجتماعية موجودة بالفعل، هي قوة العشائر العراقية.
فهذه العشائر في نزعتها العربية وترابطها وتحالفاتها القائمة على الدم والمنطقة لا على المذهبية، هي قوة علمانية لكنها الان من دون قيادة سياسية.
الثورة العراقية الكبرى تبدأ، في رأينا، بانتفاضة علمانية تعيد رجال الدين الى المساجد والحسينيات، وعندها يمكن شطب الاقطاعيين الاكراد من المعادلة.
ليس هذا حلا سحريا أو «واقعيا» – بالمعنى المبتذل للكلمة- لكنني اراه الحل الحقيقي الوحيد في صراع طويل.