ناهض حتّر
لا يمكننا النظر الى آراء البابا بنديكيت السادس عشر في اطار السجال الديني الاكاديمي. فالسجال – بحد ذاته – الآن، يأتي في اطار سياسي دولي، تتصاعد فيه الحملة الاستعمارية الامريكية – الصهيونية ضد الشعوب العربية والاسلامية.
فكرة الجهاد الديني والحرب المقدسة، ليست، فقط، فكرة اسلامية. فهي تمثل، ايضاً، اتجاهاً ثابتاً في المسيحية الغربيّة. واذا كانت الكنيسة الكاثوليكية قد تخلصت من هذا الاتجاه في العصورالحديثة تحت تأثير الثورات الاوروبية، العلمانية والشعبية، فهي كانت تقود الجهاد الديني والحروب المقدسة في ظلام الحملات الصليبية في العصور الوسطى. ومن الواضح ان البابا بنديكيت السادس عشر، يحنّ الى تلك العصور من الصراع المسيحي – الاسلاميّ، تحت تأثير المجموعة اليهومسيحية الحاكمة في واشنطن، وهي التي تسبغ اثواب الحروب المقدسة على مشروعها الاستعماري في بلاد العرب والمسلمين.
تتميّز الكاثوليكية الحديثة بنقاشها العقلاني المتسامح لقضية العنف الثوري .. وبعض كنائسها – في امريكا اللاتينية – تبنت، بالفعل، «لاهوت التحرير»، ودعمت واحيانا تماهت مع – حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار الامريكي ومن اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعّية.
وهي، بذلك، منحت للمسيحية آفاقاً جديدة، انطلاقاً من روح «الفداء». وهذا التطور الذي فرضه الصراع بين الشعوب المضطهدة وبين الاستعمار والاستبداد والاستغلال، هو نفسه الذي طوّر فكرة الجهاد الديني في الاسلام الى فكرة الجهاد الوطني والشعبي المتمثل في المقاومة. لقد اصبح الاسلام، ايديولوجية عامة لحركات المقاومة العربية والاسلامية. وما يقوم به المجاهدون المسلحون، الآن، ليس «حروباً مقدسة» وانما هو مقاومة للعدوان الامريكي – الصهيوني. اما الانحراف الارهابي، فهو صناعة امريكية، بالفعل او بالتأثير من خلال الانموذج الارهابي الامريكي.
لو كان البابا بنديكيت السادس عشر، مخلصاً فعلاً لنبذ فكرة الحروب المقدسة من تاريخ البشرية، لكان وجه انتقاداته ضد عصابة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. فهي التي تشنّ حرباً مقدسة على الاسلام – اي على المسلمين – تحت شعارات يهومسيحية ظلامية لا عقلانية من اجل الاستيلاء على ثروات المسلمين النفطية. فهي، بالطبع، حروب النفط. ولكن بوش الصغير يدعي بأنه يجسد الارادة الالهية في شنها، بما في ذلك الغزو والاحتلال وتدمير الدول، والبنى التحتية والمنشآت المدنية، والقتل الجماعي للمدنيين، والاعتقالات والتعذيب. وهذا ما شاهدناه في افغانستان والعراق وفلسطين ولبنان. وهي البلدان التي تشهد – حتى الآن – على بشاعة «الحروب المقدسة» الاجراميّة التي تشنها واشنطن وتل ابيب، ضد العالمين العربي والاسلامي، باسم المعتقدات اليهو مسيحية.
هل توافق الكاثوليكية الحديثة – لاهوتياً واخلاقياً – على حروب بوش الصغير«المقدسة»؟ لا. فلماذا تجاهل البابا بنديكيت السادس عشر، الجلادين، وهاجم الضحايا؟
العرب – ومنهم المسيحيون – والمسلمون، ليست لديهم القدرات لشن «حروب مقدسة» استعمارية لصوصية. انهم يستخدمون فكرة «الجهاد» لمواجهة المستعمرين واللصوص. وهذا ينسجم، تماماً، مع ارادة الله من منظور عقلاني. فالارادة الالهية والعقلانية تتوافقان في مفهوم العدل، والانتصار للمظلومين وحرية الاوطان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، واستعمال ثرواتها لمصلحتها.
نحن، ايضاً، مع العقلانية في تفسير ارادة الله. ولذلك، فنحن نرى ان وجود دولة اسرائىل في بلادنا، يتنافى مع تلك العقلانية بصورة كاملة. فأين هي العقلانية فياغتصاب وطن وتشريد شعب وشن حروب التوسع والعدوان، بالاستناد الى معتقدات دينية تعود الى ثلاثة آلاف سنة؟ فهل يجرؤ البابا ينديكيت السادس عشر على القول بان اسرائىل وحروبها «المقدسة» تتناقضان مع الارادة الالهية من منظور عقلاني؟ كلا.
يبقى ان نفسّر ما بدا انه مفاجأة من اقدام بابا الفاتيكان على المساهمة في الحرب على الاسلام، وهي مفاجأة لأن سلفه، البابا يوحنا بولص الثاني، كان حريصاً على التقارب المسيحي – الاسلامي. وهو كان كذلك لأن تدريبه الفكري والسياسي، كان منصباً على القتال ضد الشيوعيّة. وكانت واشنطن في العقد الاخير من الحرب الباردة، تركز على التحالف مع الاسلام في مواجهة الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعيّة. وبالمحصلة، كان البابا يوحنا بولص الثاني، معبراً عن هذا الاتجاه. وقد امتدّ به العمر طويلاً بعد انتهاء الحرب الباردة، ما جعل الفاتيكان محايداً في الحرب الامريكية على الاسلام، بل ربما ناقداً لها.
الآن، جاء الى سدّة البابوية، رجل مدرّب على ايديولوجية الحروب الصليبية، ولا اقول ان انتخابه كان مؤامرة امريكية، لكن من الواضح ان نجاحه باستلام السلطة البابوية، منسجم، في النهاية، مع اتجاهات الحرب الامريكية على الاسلام.
هذايعني ان «آراء» البابا الحالي – المعادية للاسلام – سوف تتحول الى خطاب دائم لعهده. وسوف يكلف ذلك الكنيسة الكاثوليكية، سلسلة من الانشقاقات من قبل اتباعها، خصوصاً في العالم العربي وامريكا اللاتينية.